في تلك الليلة الكانونية الباردة ... خبأ جسده المرتعد داخل معطفه الشتوي الطويل ... ولف وشاحا صوفيا محاكا من خيوط الشوق حول عنقه المشرئب ناظرا إلى نافذتها المعلقة في أفق الخيال ... بينما كانت يداه مشغولتين بتنسيق باقة الزهور الأنيقة التي أعدها خصيصا لتكون بحجم أناقتها المعهودة .. كانت شفتاه تتدرب على نطق حروف الشوق .. أما قلبه فقد كان محملا بالخوف من ردود أفعالها المدروسة ... ظل يراقب بصمت تلك الستارة المسدلة على عطر المساء .... والتي تختفي وراءها نجمة لا تشبه النجوم .. كان ينتظر أن تطل بنورها الباهر ودفئها الخرافي الذي سوف يقتلع صقيع بدنه وقلبه ... حاول أن يفتعل السعال ..ليخدع سمعها المرهف وتطل لتستطلع ما وراء الستارة المرخاة على أنين الليل المبهم ... كل لحظة تمر به كانت بمثابة خنجر ينغرس في أوصاله المجمدة .. وتتكاثف سحابات من بخار فمه المنفوث فوق أكمام زهوره الخائبة التي تكاد تتجمد في خليط من الصقيع والظلام ...
شعر أن عناده يعاند نافذتها الموصدة بإحكام ..وزفراته تصطحب معها سيلا من التحديات الصاخبة التي تجتث صمت المكان ... شارف الليل على الانتصاف .. لكن النجمة ماتزال تعبث بشبحه المنتصب كتمثال في أروقة ثباتها القاهر .. حمل باقته المترفة بيد واحدة ..ودس الأخرى في جيبه التماسا لبعض الدفء ... أدنى الباقة من أنفه المثلج .. عله يشم ذاك العبق الذي أوصاه أن يدغدغ أنفها المتعالي .. لكنه شعر أن العبير قد اختفى عند بوابة الشوق الموصدة بقسوة ليس لها مثيل ... وفجأة أطفأت أنوار حجرتها .. وتساقطت الورود من يده واحدة تلو الأخرى ... وقفل عائدا وروحه تجتر مرارة خيباته المتكررة ..إن السائر وراءه سيقرأ من أفواه تلك الزهور المترامية على قارعة الطريق قصة انكسار رجل على يد أنثى من العيار الثقيل .. لكن قلبه ظل معلقا على تلك الستارة التي ترقد وراءها تلك النجمة التي لا تتقن الأفول من سماء قلبه المقهور ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق