...... شوق التّجلّي ......
أغمضتُ عينيّ فانفتحت منافذ ُ مبهرة. على بساط كما الغيمة البيضاء رأيتُني جالسة ، أمسكُ بيدي كتابا وعند قدميّ عصا كلّما حرّكتها تراءت لي ثنايا شفّافة مغرية . والفضول يغريني أدرتُ الصّفحة الأولى من الكتاب فصفّقت منْ عمقه حمامة ، بياض جناحيها قدّ منْ أشرعة سفين ومنقارها كريشة قلم منها تقطر مادّة لا هي مداد ولا هي ماء . فقط يضوع منها عبير غريب ، رائحته تذكّرُ بالبخور وليست بخورا.
فركتُ يديّ فأحسستُني خفيفة كقشّة وتراءت لي أطياف سابحة ، تأمّلها فإذا هي أحمال تندحر رويدا ، يغرقها طوفان هادئ ، رأيتُها الأحمال وتلك الأسئلة الشّائكة ، المعلّقة دوما على القصبات الهوائيّة ، لمحتُها مِنْ بعيد ، بعيد تهزّ المناديل البيض ، تُودّعني وداع الذّلّ والخنوع ، تُتَمْتِم حرّة أنتِ يا ذات الرّوح المولعة بالسّفر ، لقد ابتلعنا السّكون فلا رجوع ، لا براكين منذ اليوم ، لا أصوات تقضّ مضجعكِ لكنّ ذهني يتشوّشُ لثانية فيستحضر مشاهد عُلّقت فيها الحقيقة على حبال السّؤال .
يُرعدُ القلب فيتحرّك البساط ، يُحلِّقُ بي إلى سماء لمْ يعرفها ناظري ، مزيجٌ من زرقة وضوء والأرض ينسجُها المخيال بلا عقبة ، لا شوك ، لا نِزَال . أرض كلّ عُمرانها أهرام وَرْد ، زهور طبَع عليها الصّفاء تفاصيل عجيبة ، حُمرة خدّ وطرْف أسيل ، أمّا الأفواه فلا تُفارقها الابتسامة ، كلّما حرّكها النّسيم دندن بين شفاهها هدْل حمامة واللّون السّابح يختزل كلّ الألوان التي أعرِفُها ، لمعة ترسم في الشّبكيّة عالما نابضا يُسرّبُ همهماته إلى القلب فيهتزّ.
بيْن غمضة وفتحة وجدتُني واقفة أكادُ أتعثّر في جلبابي الأبيض الطّويل والحمامةُ المصفّقة في لمح البصر تتشكّلُ ، تتحوّلُ سجّادا لا يُدركُ منتهاه ، عليه رسوم تغوص في عمْق الذّاكرة . إلى ذهني تتهادى أصوات ، ابتهالات و بساطِي يقطعُ المسافاتِ ، يختزلُ الأزمنة . يشدّني إلى وقفة ، لُحْمة عشتها بالرّوح والجسد . من جلبابي الأبيض يفوحُ عبير ، في حُنجرتي تهلّلُ البُشْرى والهمسُ يَصَّاعَدُ في أذنيّ : يا مالك الملك ، يا فارج الكرب ، يا مُجيب الدّعاء ، يا رحيم ، يا رحمان. والغيمةُ الهادرةُ تحكي الشّوق الساكن في الوجدان . تبتهج ركبتاي وهما تلامسان أرْض الصّحن بينما يَسرحُ الجبين في لجٍّ نحو عالمِ التّجلِّي. بياضٌ ، بياضٌ والرّوح سكْرى ترتشفُ أقداح الرّضَا ، تستمطرُ النّفْح مِنْ تلك الرِّياض.
تونس.....10 / 3 / 2019
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق