لغتنا الجميلة
البحث الخامس عشر
في الفصاحة و البلاغة
كثيرا ما يتساءل المرء : ماهي الفصاحة وما هي البلاغة ؟ و هل الفصاحة هي نفسها البلاغة ؟
يعتقد الكثيرون أن الفصاحة هي نفسها البلاغة . و لكن في الحقيقة لكل منهما معنى يختلف عن الآخر .
و أكثر البلغاء ، لا يكادون يميزون بين الفصاحة و البلاغة ، بل يستعملونها استعمال الشيئين المترادفين ، على معنى واحد ، في تسوية الحكم بينهما .
فاجدادنا العرب ، ميزوا و فرقوا بين الفصاحة و البلاغة
قال ابن المعتز :
" البيان ترجمان القلوب و صيقل العقول "
و قال الجاحظ :
" البيان اسم جامع لكل ما كشف لك عن المعنى " .
و البلاغة ، فانها من حيث اللغة أن يقال :
بلغت المكان ، أي أشرفت عليه ، و ان لم تدخله .
و البلاغة وضوح الدلالة ، و انتهاز الفرصة ، و حسن الاشارة ، كما يقول البعض .
و يقول آخرون : البلاغة تصحيح الأقسام ، و اختيار الكلام . و البليغ يجب أن يكون قليل اللفظ ، كثير المعنى .
و قيل ان معاوية سأل عمرو بن العاص من أبلغ الناس . قال :
أقلهم لفظا، و أسهلهم معنى ، و أحسنهم بديهة .
و قال أبو عبدالله وزير المهدي :
البلاغة ما فهمته العامة ، و رضيت به الخاصة .
و سئل بعضهم عن البلاغة فقال :
كلام و جيز معناه ، الى قلبك أقرب من لفظه الى سمعك .
و قال جعفربن محمد الصادق (رضي الله عنه) :
انما سمي البليغ بليغا ، لأنه يبلغ حاجته بأهون سعيه .
و قال المفضل الضبي : سألت أعرابيا عن البلاغة فقال :
الايجاز في غير عجز ، و الاطناب في غير خطل .
و قيل للعتابي : ما البلاغة . فقال :
من أفهمك حاجته من غير اعاقة ولا حبسة و لا استعانة .
و سئل بعض الحكماء عن البلاغة فقال :
من أخذ معان كثيرة فأداها بألفاظ قليلة ، و أخذ معان قليلة ، فولد منها ألفاظا كثيرة ، فهو بليغ .
ومن أعلى درجات البلاغة في الكلام المنثور ، قوله تعالى :
" و قيل يا أرض ابلعي ماءك ، و يا سماء أقلعي ، و غيض الماء و قضي الأمر و استوت على الجودي .. "
و قوله أيضا :
" فاصدع بما تؤمر " .
ومن البلاغة في القول المنظوم قول امرؤ القيس :
قفا نبك من ذكرى حبيب و منزل ..
فانه وقف و بكى و استبكى و تغزل بذكرى الحبيب و المنزل ..
و ذلك بنصف بيت فقط ..
أما الفصاحة :
يقول الامام فخر الدين الرازي :
اعلم ان الفصاحة ، خلوص الكلام من التعقيد ، و أصلها من قولهم : أفصح اللبن ، اذا أخذت عنه الرغوة . و يقال أفصح الصبح ، اذا انكشف و بدا . و كل واضح مفصح .
و يزعم بعضهم ، أن البلاغة في المعاني ، و الفصاحة في الألفاظ و يستدل بقولهم :
معنى بليغ و قول فصيح .
و الكلام الفصيح ، هو اللفظ الحسن المألوف في الاستعمال ، بشرط أن يكون معناه المفهوم منه صحيحا حسنا .
ومن المستحسن في الألفاظ ، تباعد مخارج الحروف ، فان كانت بعيدة المخارج ، جاءت الحروف متمكنة في مواضعها ، غير قلقة و لا مكدودة ، ومن الأمثلة على تقارب المخارج و قلق الحروف كقول بعضهم :
و قبر حرب بمكان قفر ... و ليس قرب قبر حرب قبر
فلا يستطيع قارئ هذا البيت أن يقرأه عشر مرات متتالية ، الا أن يقع في الغلط بالقراءة . ذلك أن القرب بين المخارج يجعل النطق به صعبا .
في البلاغة و الفصاحة و الشعر
وهل الفصاحة هي البلاغة ؟
معجم لسان العرب " لابن منظور: ", و البيان وفقا لما ورد في
ما بُيـــِن به الشيء من الدلالة . و بان الشيء بيانا : اتضح فهو بيــِّنٌ ، و الجمع أُبَيْــناء ، مثل هين : أُهـَـيْنـاء و كذلك أبان اشيء فهو مبين الفصاحة . .
و البلاغة : او البـَلْغ و البِـلْغ : البليغ من الرجال . و رجل بليغ : أي حسن الكلام فصيحه ، يبلغ بلسانه كنه ما في قلبه ، و الجمع بلغاء
وقال بعضهم في البلاغة:
كلام وجيز ، معناه الى القلب أقرب من لفظه الى سمعك .
و قال خالد بن صفوان : هو اصابة المعنى ، و القصد الى الحجة
و قيل :قلة الكلام و ايجاز الصواب
...
و الفصاحة هي غير البلاغة .. والبلاغة أن تأتي المعنى بأقل الألفاظ -
قال معاوية لصُحار بن العباس العبدي :
ما هذه الفصاحة فيكم عبدالقيس ؟ . قال
شيء يختلج في صدورنا فتقذفه ألسنتنا ، كما يقذف البحر الزبد . قال:
فما البلاغة عندكم ؟ .
قال : أن نقول فلا نخطئ ، و نجيب فلا نبطئ . ثم قال :
أقلني يا أمير المؤمنين . قال : قد أقلتك . قال :لا تبطئ و لا تخطئ .
قال أبوحاتم : استطال الكلام الأول ، فاستقال ، و تكلم فاوجز .
....
و من الأمثلة على البلاغة:
و قفت امطرأة على قيس بن سعد بن عبادة ، فقالت :
أشكو اليك قلة الجرذان . قال :
ما أحسن هذه الكناية ! .. املؤوا بيتها خبزا و لحما و سمنا و تمرا .
....
قيل لشبيب بن شيبة عند باب الرشيد :
كيف رايت الناس ؟ . قال :
رأيت الداخل راجيا ، و الخارج راضيا,
...
أمر هارون الرشيد جعفر البرمكي ، أن يعزل أخاه الفضل من الخاتم ، و يأخذه اليه عزلا لطيفا . فكتب اليه :
قد رأى أمير المؤمنين أن ينقل خاتم خلافته من يمينك الى شمالك . فكتب اليه الفضل :
ما انتقلت عني نعمة صارت اليك ، و لا خصتك دوني
........
نظر أعرابي الى رجل سمين . فقال :
أرى عليك قطيفة من نسج أسنانك .
..
قال رجل للعتابي :
ما البلاغة . قال :
كل من بلغك حاجته ، و أفهمك معناه ، بلا اعادة و لاحبسة ، و لا استعانة ، فهو بليغ . قالوا :
قد فهمنا الاعادة و الحبسة ، فما الاستعانة .؟ . قال:
أن يقول عند مقاطع كلامه : اسمع مني ، و افهم عني ، أو يمسح عثنونه ، أو يفتل اصابعه ، أو يكثر التفاته من غير موجب ، أو يتساعل من غير سعلة ، أو ينبهر في كلامه .
و قال الشاعر :
مليء ببهر و التفات وسعلة ... و مسحة عثنون ، و فتل أصابع
.....
سئل بعضهم عن الشعر فقال : ما لم يحجبه شيء عن القلب .
و قال الأصمعي : الشعر ما قل لفظه ، وسهل و دق معناه ولطف ، و الذي اذا سمعته ، ظننت أنك تناله ، فاذا حاولته ، وجدته بعيدا ، و ما عدا ذلك فهو كلام منظوم .
و قال بعض البلغاء : الشعر عبارة عن مثل سائر ، و تشبيه نادر ، واستعارة بلفظ فاخر .
و قال حسان بن ثابت :
وان أحسن بيت أنت قائله ... بيت يقال اذا أنشدته صدقا
و قال احمد شوقي :
و الشعر ان لم يكن ذكرى و عاطفة... أو حكمة ، فهو تقطيع و أوزان
و قال حسان بن ثابت أيضا :
و انما الشعر عقل المرء يعرضه ... على البرية ان كيسا و ان حمقا
....
مع التصرف و الاختصار ، من كتاب " المستطرف في كل فن مستظرف " للأبشيهي .
و من كتاب " نضرة الاغريض في نصرة القريض " للمظفر العلوي .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق