لغتنا الجميلة
علم البيان و البديع
في المحسنات البديعية
بعد أن أكملنا بعون الله بحوثنا حول الشعر بشكل عام قواعده .. مقاطعه و مطالعه .. و غيرها من الأمور . ارتأيت اعادة نشر ما كنت بحثت فييه في موضوع علم البيان و البديع .. و متعلقاته من استعارة و جناس و غيرها .. و ذلك لابتباطها الوثيق بالشعر بشكل عام فضلا عن النثر .
و قد استندت في هذه البحوث التي سأقوم بنشرها بصورة دورية باذ الله .. الى العديد من المصادر و المراجع الخاصة بكتب التراث العربي .. منها كتاب " البديع " لابن المعتز وكتاب " البديع في البديع " لاسامة بن منقذ .. و كتاب " الصناعتين " لأبي هلال العسكري و كاتب " القوافي " للأخفش الأوسط و غيرها .. مع التصرف بالاضافة و التعديل وفقا للظروف .. لتصل الى المتلقي وتكون مرجعا له بصورة أكثر سهولة .. راجيا أن أكون قد وفقت .. راجيا من الله اكون قد أديت المهمة بشكل مفيد وواف .
قال الأصمعي في تعريفه للشعر :
" الشعر ما قلّ لفظه ، و سهل و دقّ معناه و لطف ، و الذي اذا سمعته ، ظننت أنك تناله ، فاذا حاولته ، وجدته بعيدا ، و ما عدا ذلك، فهو كلام منظوم " .
و لبعض البلغاء :
" الشعر عبارة عن مثل سائر، و تشبيه نادر ، و استعارة بلفظ فاخر " .
و عن أبي ذكريا التبريزي قال :
" كنت أسأل المعري عن شعر أقرأه عليه ، فيقول لي :
هذا نظم ، فاذا مر به بيت جيد ، قال : يا أبا زكريا ، هذا هو الشعر " .
و يقول ابن الأثير :
" أسرار الفصاحة ، لا تؤخذ من علماء العربية ، و انما تؤخذ منهم مسألة نحوية تصريفية ، أو نقل كلمة لغوية ، و ما جرى هذا المجرى ، و أما أسرار الفصاحة فلها قوم مخصوص بها " .
فهو أراد أن يثبت أقدام النقد للمتخصص في تحليل الجانب الدلالي للغة ، مشيرا الى أن ميدان عمل النقاد هو البحث عن أسلوب اللغة الشعرية بفصاحتها و بلاغتها ، و ما تمتاز به عن غيرها من أساليب الكلام الأخرى ، و هكذا كانت الفصاحة أول جانب من جوانب اللغة الشعرية . ..
والمحسنات البديعية ، هي جانب من جوانب اللغة الشعرية التي كثيرا ما يأتي عليها الشاعر أحيانا ، كي يمنح المعنى جمالا ، و القريض قوة ..
انما يبقى على الشاعر أن يعرف كيف يستعملها فيأتي بها بصورة لاتكلف فيها ، فان أكثر منها الشاعر ، مجها السمع وأصبحت ثقيلة عليه ، فجاء الشعر متكلفا ، بعيدا عن العاطفة .
و يقال ان مسلم بن الوليد الملقب " صريع الغواني " هو أول من أكثر من البديع في شعره ، ثم تبعه الشعراء في ذلك . و يبدو أنها سميت " محسنات " لما تضيف على القصيدة أو الأبيات من جمال شعري ، و قوة في البناء .
و ليس معنى ذلك أن قدماء الشعراء لم يكونوا يستعملونها .. بل على العكس من ذلك . انما كانت تأتي في قصائدهم على السليقة و البديهة ، دون قصد و دون أي تكلف .. و دون أن يكون لها تسمية عندهم .. و عندما جاء المحدثون فقد أكثروا من استعمالها و تقصدوا . حتى جاءت في أحيان كثيرة مقيتة و قبيحة .
وانني أرى ، أن على الشاعر خاصة ، أن يكون ملما بهذه المحسنات ، و على معرفة بها ، ليمنح الأبيات جمالا و قوة ، و ليتجنب التعسف في استعمالها . ، و لا يكفي الشاعر أن يكون على علم بها فقط ، بل أن يكون ملما بها بحيث يستطيع أن يضعها في مكانها الصحيح .. و في الوقت المناسب .. فلا تأتي متكلفة قبيحة و أن يكون على دراية في امكان ابدال كلمة بأخرى تحمل نفس المعنى .. فتأتي بصورة أكثر جمالا و قوة ، و تشكل في الوقت نفسه جناسا جميلا ، أو أن يأتي بكلمة تشكل طباقا مع كلمة أخرى في البيت ، أي معنى مخالفا ، فتأتي الأبيات بصورة أجمل . فكأن الشاعر يقوم بترصيع قطعة من الحلي ، حتى تخرج أكثر جمالا ، و أبهى منظرا ، بعد اختيار الكلمات المناسبة ، و حذف العبارات التي تشكل حشوا ، لا فائدة من وجودها .
و من أنواع المحسنات :
1- الجناس و التجنيس :
الجناس :
هو التشابه اللفظي ..
و التام منه : أن يتفق اللفظان في نوع الحروف و أعدادها ، و هيئاتها و ترتيبها ، فيكون جناسا تاما .
و قد يكون الجناس بين اسمين ، كقوله تعالى :
" و يوم تقوم الساعة ، يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة "
فلفظة " الساعة " أسم يعني القيامة ، ولفظة " ساعة " يعني الزمن .
و قد يكون الجناس بين اسم و فعل ، كقول أبي تمام :
ما مات من كرم الزمان فانه ... يحيا لدى يحيى بن عبدالله
علينا أن نلاحظ هنا بين لفظتي يحيا وهي فعل هنا .. و يحيى الذي هو اسم .
و قد يكون الجناس ناقصا ..
اذا اختلفا في أعداد الحروف .. فقد يكون الاختلاف بنقصان حرف أو زيادة حرف . كقوله تعالى :
" و التفت الساق بالساق الى ربك يومئذ المساق "
يقع الجناس هنا بين لفظة الساق .. و لفظة المساق بزيادة حرف الميم
و كقول أبي تمام :
يمدون من أيد عواص عواصم ... تصول بأسياف قواض قواضب
هنا أنقص الشاعر حرفا في لفظة.. قواض .
و قول البحتري :
لئن صدفت عنا فرُبَّتَ أنفس ... صواد الى تلك الوجوه الصوادف
و قول ( البحتري ) أيضا :
ما زلت تقرع باب بابل بالقنا ... و تزوره في غارة شعواء
اذن التجنيس هو أن يأتي الشاعر بكلمتين مقترنتين متقاربتين في الوزن ، غير متباعدتين في النظم . غير نافرتين في الفهم ، يتقبلهما السمع ، ولا ينبو عنهما الطبع ، كقول يزيد بن عبدالمدان الحارثي :
أحالفتم جرما علينا ضغينة ... عداوتكم في غير جـرمٍ و لا دمِ
كفانا اليكم حدنــا و حديــدنا ... و كفٌ متى ما تطلب الوتر تنقمِ
فالجناس هنا هو في لفظتي جرم الأولى و جرم الثانية ,, و لكل منهما معنى مختلف ، و هو ما يسمى الجناس الكامل أو الجناس التام ، كما ذكرنا سابقا .
و جرم ، اسم قبيلة ، و قوله في غير جرم ، أي من غير ذنب . و حدنا ، يعني بأسنا ، مأخوذ من حد السيف . و حديدنا يعني قوتنا ، و كفانا .. و كفى أيضا نوع من التجنيس
و قال آخر :
بانت رميم ، و أمسى حبلها رمما ... و طاوعت بك من أغرا و من صرما
فلفظتي رميم ، و رمما .
رميم : اسم أمرأة
و لمزيد من الأمثلة :
من التجنيس الحسن ، كقوله :
حين نجا من خوفه و ما نجا
و قول الشاعر:
ناظراه فيما جنت ناظراه ... أو دعاني أمت بما أودعاني
و قول البحتري
يعشى عن المجد الغبي و لن ترى ... في سؤدد .. أربــا لغير أريب
و كقوله :
فقد أصبحت أغلب تغلبيا... على أيدي العشيرة و القلوب
و كقوله :
و هوىً هوى بدموعه فتبادرت ... نسقا يطأن تجلدا مغلوبا
و يرى علماء اللغة عند العرب .. أنه اذا زاد الشاعر في التجنيس ، فثلث مثلا ( أي أتى بثلاثة ألفاظ ) .. كان ذلك فسادا في الصنعة ، و قد تثقل الألفاظ على السمع و القلب ، ، كقول أبي تمام :
سلم على الربع من سلمى بذي سلم ...
لو أنه اكتفى بلفظتي سلم في مطلع البيت ، و سلم في آخره .. لكان أجمل ، و أوفى بالغرض .. الا أن لفظة سلمى عكرته .. أضافة الى ذلك فان لفظتي سلم .. هنا هما لفظتان متقابلتان ، حيث الأولى وردت في أول البيت ، و الثانية في نهايته ، و المقابلة هي من المحسنات البديعية أيضا ، وقد انفردت لفظة سلمى بغير قرين لها ، أي اقترانها بلفظة مقابلة ، و لو أن الشاعر ربّع أي لو أنه أتى بلفظة رابعة لصحت المقابلة ، و ان ثقلت الألفاظ على السمع و القلب ، و عاد التكلف ظاهرا عليها ، مثال التربيع كأن يقول :
سلم سلمت على سلمى بذي سلم ..
هنا تمت المقابلة بوجود أربع ألفاظ .. وان تكن ثقيلة على السمع كما قلنا .
و كان الأصمعي يستبشع قول الشاعر :
فما النوى ، جد النوى ، قطع النوى ... كذاك النوى قطاعة لوصال
يقول الأصمعي : لو أن الله سلط على هذا البيت شاةً ، فأكلت نواه ، و أراحتنا منه .
و أنشد ابراهيم الموصلي الأصمعي قوله :
يا سرحة الماء قد سدت موارده ... أما اليك طريق غير مسدود
لحاتم حام حتى لا حيـــام له ... محلّـــأٍ عن طريق الماء مورود
فقال الأصمعي : أحسنت في الشعر ، غير أن هذه الحاءات ، لو أنها اجتمعت في آية الكرسي لعابتها .
و يروى عن بعض المشايخ قوله :
مثل التجنيس الواحد في البيت ، كالخال الواحد في الخد ، فاذا كثر ، انتقل من الاستحسان ، الى الاستقباح ، و ربما طمس محاسن الوجه .
و قد تختلف الألفاظ بترتيب الحروف فتسمى جناسا أيضا كقول بعضهم :
رحم الله امرءا أمسك ما بين فكيه ، و أطلق ما بين كفيه
و قول المتنبي :
ممنعة منعمة رداح ... يكلف لفظها الطير الوقوعا
وبحث الجناس بحث يطول.. و أنواعه كثيرة ، و أرجو ان أكون أوضحت المطلوب ، ووفقت في ايضاح المقصود ، و سنتناول انشاء الله المزيد من المحسنات البديعية في مقالات لاحقة ان شاء الله
.........
خالد ع . خبازة
اللاذقية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق