السبت، 16 أكتوبر 2021

في التجديد الوزني بقلم : أحمد السيد


 في التجديد الوزني 

بقلم : أحمد السيد 


استحداث وزن شعري جديد ليس جديدا في تاريخ الشعر العربي 


و ليست البحور التي قنّنها الخليل - استقراﺀً -  كلُّها من العصر الجاهلي 

على الأقل هناك بحور   مستحدثة تنسب لبعض الشعراﺀ :  الخليفة الوليد بن يزيد و أبي نواس .. و يعزى للنحوي سعيد بن مسعدة  (  الأخفش الأوسط ) اكتشافه البحر السادس عشر . 

و الوليد بن يزيد و أبو نواس  تأثرا بأجواﺀ الموسيقا و الغناﺀ فولد نتيجة ذلك المجتث و المقتضب و المضارع .. و لعلي أفصل في ولادة هذه الأبحر من أصول لها 


لكن ليس هذا فحسب 


الشعر العربي لا يقتصر على عروض  الخليل : فأبو العتاهية قال : أنا اكبر من العروض ! 

و سمع معاصروه منه شعرا له يخالف العروض .. 


لا يمكن - عقلا - الادعاﺀ أن الخليل - رحمه الله - قد قرأ شعر العرب قاطبة دون استثناﺀ ثم صنفه في بحوره و دوائره .. 


لقد عمل على الخط الشعري العام .. الشهير .. المتسق 


و علِم أن بعض شعر الجاهلية لا يخضع لقانونه العروضي 


معلقة عَبيد بن الأبرص - مثلا -  تخرج بعض أبياتها على وزن سائرها : مخلّع البسيط

و غيرها من شعر عَبيد فيه خروج على قوانين العروض  


و مع ذلك عدّ العرب قصيدة عَبيد هذه من عيون الشعر .. فهي معلقة عند قوم و مجمهرة عند آخرين .. 


السمو الفني و الإبداع لا يستندان إلى الوزن حصرا و لا يفقدان بغيابه الجمال كله 


و الدوبيت  ؟ 

ه---------------

( دو ) بالفارسية تعني اثنين 

و بيت : من العربية ( بيت الشعر ) 

فالدوبيت : بيتان ( اربعة اشطر مقفاة بقافية واحدة . و يجوز عدم تقفية الشطر الثالث ) 

و هذا هو الفن الذي فتن به المطربون و تمت كتابة رباعيات و دواوين على وزنه و صدح بنصوصه  أهل الطرب حتى في عصرنا هذا  و هو بالطبع ليس وزنا عروضيا 


حقق الدكتور كمال أبو ديب ديوانا كاملا للشاعر نظام الدين الأصفهاني وزن كل نصوصه من الدوبيت 

و هذه رباعية منه : 


أَنفاسُكِ  عيسَويَّةٌ  يا ريحُ


ما شِئتِ بِها لِمُهجَتي تَرويحُ


رَشَّحتِ لِأَسرارِ هَواها روحي


لِلروح كَذا فَليَكنِ التَرشيحُ 


هل ترى الوزن غريبا ؟ 

إذن تذكر ما يصدح به صباح فخري أو فيروز من شعر أبي خليل القباني : 

يا غصنَ نقا مكلَّلاً بالذهبِ 


أفديكَ من الردى بأمّي و أبي 


إن كنتُ أسأتُ  في هواكم أدبي 


فالعصمةُ  لا  تكونُ  إلّا لنبي 


كتب الدوبيت بالفصحى كما شاع في اللهجات الدارجة في الخليج و في السودان و غيرهما 


البند 

ه------

و كذلك البند العراقي 

و قد ظهر منذ بضعة قرون في العراق و انتشر في دول الخليج ( و منها الأهواز ) و تمت كتابته بالفصحى على تفعيلتي الهزج و الرمل 

و لعله أساس شعر التفعيلة بشكله  السطري لا البيتي ( و السطر يطول أو يقصر ) 

و هذا نموذج لأحد أعلام البند و رواده  ابن معتوق الموسوي : 


أيُّها الرّاقِدُ في الظُّلْمَة

نَبِّه طَرَفَ الفكْرة

من رَقْدَة الغَفْلَة

وانظُرْ أَثَرَ القُدْرَة

واجْلُ غَلَس الحَيرة

في فَجر سَنى الخبرة

وأرْنُ إلی الفلكِ الأطلس والعرش

وما فيه من النّقش

وهذا الأفق الأدكن

في ذا الصنع المتْتن

والسبع السماوات

ففي ذلك آيات

هُدى تكشف عن صحّة إثبات إله

كَشَفَت قدرتُه عن غُرر الصُّبح


الموشحات : 

ه-------------

و موشحات الأندلسيين ( كثير من أوزانها ليست تحت  راية  الخليل )

و يكفي أن يراجع المهتم كتاب ( دار الطراز ) لابن سناﺀ الملك ليطلع على هذا الفن الشعري الغنائي و ألوانه العديدة و اتساع دائرة طيفه و ما له من قواعد و تقنيات ..


الخروج على قوانين العروض : 

ه------------------------------------------

 

فضلا عن خروج كثير من الشعراﺀ خروجا صغيرا أو كبيرا على تقنينات الخليل المستنبطة  ( و منهم المتنبي ! ) 

ففي أبيات يمدح بها أبو الطيب الأمير العربيَّ بدر بن عمار الأسدي يقول : 


إِنَّما بَدرٌ رَزايا وَعَطايا


وَمَنايا وَطِعانٌ وَضِرابُ


ما يُجيلُ الطَرفَ إِلّا حَمِدَتهُ


جُهدَها الأَيدي وَذَمَّتهُ الرِقاب 


و هذا ما لا يجيزه العروض في غير التصريع 

و القانون يقتضي أن تكون تفعيلة العروض هنا ( فاعلن / فعِلن ) 


و جلي أن المتنبي قد جعل عروض أبياته تامة ( فاعلاتن / فعلاتن ) 


و هذا المنحى فعله المتنبي في غير الرمل . فقد قال على الطويل مثلا : 


تفكّرهُ علمٌ ومنطقه حكمٌ 


 وباطنه دينٌ وظاهره ظرفٌ 


فالعروض في هذا البيت ( قهو حكمو = مفاعيلن ) 

في غير تصريع 

و القانون يقتضي أن تكون ( مفاعلن ) 


و لا أبرئ نفسي من هذا الاقتراف الفني الجميل . فالكامل التام مثلا لا تجيز قوانين العروض فيه الترفيل و لا  التذييل و لكني أقول مترجما مشاعر عاشقة : 


لا  ليسَ ذنبي أنْ تعيشَ   بداخلي 


إنْ غِبْتَ عنّي أوْ عبرْتَ أمامَ عيني 


لا ليسَ  ذنبي إذْ   تصافحُني إذا 


زلزلتَ أعماقي و فجّرْتَ التّمنّي 


و إذا تغنَّى طيفُ صوتِكَ  في دمي 


راقصْتُ أشواقي على وَقْعِ التّغنّي 


ما بينَ  وجداني و كِتماني الهوى 


ما عُدْتُ أعرفُني فهلْ أفلتُّ منّي ؟ 


            ه.ه.ه.ه.ه


مَنْ  قالَ  إنّي لمْ  أزلْ تلكَ التي 


كانتْ تعيشُ كما تعيشُ الأُخرياتْ : 


رقماً  منَ  الأرقام ..ِ لوناً  باهتاً  ..


حجراً منَ الأحجارِ في سجنِ الحياةْ !


لا حزنَ أشعرُ .. لا أُحسُّ بداخلي 


و إذا بدا يومً  أقولُ  سواهُ فاتْ؟


..حتّى عرفْتُ العُمْرَ نبضاً عاشقاً 


لا بالعديدِ  منَ   السنينَ الراتباتْ 


هلْ  عاشَ  مَنْ صَدِئَ الوجيبُ بصدرِهِ 


فأقامَ لا هوَ في الحياةِ و لا المماتْ ؟! 

      

الشعر التفعيلي : 

ه---------------------

و الشعر التفعيلي نهر عذب هادر موار دفاق من جبال الإبداع إلى سهول التذوق المرهف ... هذا النمط كله لا ينضوي تحت راية العروض .. 

و لو فكر باكثير و السياب و نازك و نزار و درويش ... بقوانين الخليل و أعاريض كل بحر و أضربه لما كتبوا روائعهم التي عشقها الملايين .. و إن كان بعض المشتغلين بالأدب لا يعدون قصيدة التفعيلة شعرا فهذا شأنهم و ذوقهم التقليدي .. لأن آية الشاعر المبتكر - و إن اختص بكتابة الشعر البيتي - أن يعرف مكانة الشعر التفعيلي العظيمة التي رسخها المبدعون الكبار 

من قرأ منكم قصيدة تفعيلية واحدة في مدح فلان أو علّان ؟ 

كان شاعر اليمن عبد الله البردوني لا يكتب إلا وفق بحور العروض و لا يستشهد في برامجه الصحفية او الإذاعية إلا  بالشعر الحر 


استحداث بحر جديد : 

ه--------------------------


يشهد  هذا العصر  محاولات عديدة لاستحداث أوزان جديدة 


فقد زعم الشاعر  مصطفى عكرمة مثلا  أنه اكتشف بحرين  جديدين  سمى أحدهما  بحر الصفا و سمى الآخر بحر الرضا  !

و غيره و غيره ..

المحاولات الاستحداثية عديدة و غير متابَعة 

فلم تشكل امتدادا 


 

و هنالك كاتب ألف سفرا ضخما جعل فيه بحور الشعر العربي بالمئات أو  بالآلاف !!


فكرة عن بحر الصفا المزعوم : 

ه-------------------------------------------


هذه أسطر من الصفا على لسان صاحبه و فيها وزنه : 


بحر الصفا خصني دراً ثميناً

كأنني نلت حظ الأقدمينا

عجبت كيف الفراهيدي أمسى

عن حسن إيقاعه في الغافلينا

فلن ترى مسلماً إلا ويتلو

إيقاع بحر الصفا لو تشعرونا

مستفعلن فاعلن فعْلن فعولن

الحمد للَّه رب العالمينا


حقيقة : لست شخصيا ضد الاستحداث فهو نقيض المحاكاة و التقليد 


لكن 


لن يعيش وزن جديد و يدخل الذائقة الشعرية العربية إلا وفق هذه السيرورة  : 


1- أن يكتب على الوزن الجديد طائفة من كبار الشعراﺀ لا شاعر واحد .. 

فمن كتب على وزن أحمد مطر  حين كتب شطرا من بحر و شطرا من آخر ؟

 

لقد جفت محاولته الماطرة في ترابها 


2- و أن تكون النصوص في غاية السمو الفني و التأثير ممّا يستدعي محاكاتها و النسج على منوالها 


اي يجب أن تنافس المعلقات و روائع أبي تمام و المتنبي و شوقي و حافظ و الأخطل الصغير و عمر أبي ريشة و بدوي الجبل و إبراهيم ناجي و غيرهم من أعلام الشعر البيتي 


3- و لو تذوقها الملحنون و صدح بها المطربون لروضت الأذن العربية على إيقاع جديد فكان القبول و الإضافة الحقة لتراثنا الشعري العظيم 


و أخيرا : 


الشعر فن 

فلننتقل للتمثيل بغيره من الفنون  : 


أيهما أولى و أبهى و أحلى : 

عزف لحن جديد بديع عزفا بارعا على آلة العود 

أم اختراع آلة موسيقية جديدة ؟ 

( بعض الآلات المخترعة تتمثل بصفيحة زيت  فارغة ينقر عليها مراهق بعصا فتحدث صوتا لا تعرفه الآلات الموسيقية من قبل )  

إلا إن كان المخترع بقدر الفارابي الذي ينسب إليه اختراع القانون..


لسنا ضد الاستحداث فهو إبداع و ابتكار يغيظ التقليديين 


لكن الظواهر العروضية تتمثل في شيوع روح مختلف تتمثله الأذواق و تذوقه المشاعر و يتداخل مع جذور الفن  لتزهر أفنانه و تثمر 


مثالي على ذلك ( فاعلُ ) في الخبب 

فقد ذاعت و شاعت و دخلت بنية هذا الوزن 


حلب : 2021/10/13م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق