براعة الاستهلال : وردة و كتاب
بقلم : أحمد السيد
يا تونسُ الخضراﺀُ جئتُكِ عاشقاً
و على جبيني وردةٌ و كتابُ
استهلال معروف من بائية نزار قباني التي ألقاها في زعماﺀ العرب ( مؤتمر القمة العربي ) بتونس
1980 م
و في القصيدة يقول :
أنا يا صديقة متعب بعروبتي
فهل العروبة لعنة وعقاب ؟
أمشي على ورق الخريطة خائفا
فعلى الخريطة كلنا أغراب
أتكلم الفصحى أمام عشيرتي
وأعيد ... لكن ما هناك جواب
لولا العباءات التي التفوا بها
ما كنت أحسب أنهم أعراب
يتقاتلون على بقايا تمرة
فخناجر مرفوعة وحراب
و قد سأل أحد الأصدقاﺀ الشعراﺀ على متصفّحه سؤالا رائعا عن ارتباط الشطر الثاني بالأول .. ما العلاقة بين العجز ( و على جبيني وردة و كتاب ) بالصدر ( يا تونس الخضراﺀ جئتك عاشقا ) ؟
و لأنني أردت التوسع قليلا جعلت رايي هنا .. لا في تعليق عابر .. تعميما للفائدة .
أولا - مطالع الإدهاش :
ه----------------------------
و هي جزﺀ من طبيعة اللغة الشعرية المفارقة للنثرية .. في إطار ما سمّاه أستاذنا الراحل الدكتور فهد عكام ب(سحر الإغراب) حين كتب رسالة الدكتوراه عن أبي تمام في جامعة السوربون ..
و لا يعني هذا مطلقا دعوة إلى افتقاد المنطق و الترابط و هو الافتقاد المميز لكل فن لا عقلاني كما في السوريالية ..
فالشعر بالعلاقات اللانثرية يكتسب ميزة الإشعاع المعنوي المتعدد .
و من المطالع التي شغلت النقد العربي أستشهد بشاعرين من فحول الشعراﺀ العباسيين :
- يقول أبو تمّام :
أهُنَّ عوادي يوسفٍ و صواحبُهْ ؟
فعزماً فقِدماً أدركَ السؤلَ طالبُهْ
- و يقول المتنبي :
جَللاً كما بي فَلْيَكْ التبريحُ
أغذاﺀُ ذا الرشإ الأغنِّ الشيحُ؟
و قد حار الشراح في أقوال عدة لجعل استهلال كل من الشاعرين مترابطا من حيث الدلالة .. و لكنهم وجدوا الارتباط أخيرا و دونوه ..
فالشاعر أحيانا يصوغ الرسالة الشعرية عامدا متعمدا لإشغال المتلقي بفنه .. و قد عدّ طه حسين أولى قصائد المتنبي التي أنشدها في بلاط سيف الدولة تحديا و إشغالا من الشاعر لحاشية الأمير الحمداني و فيهم لغويون و قضاة و بداة و نحاة ..و هي القصيدة الرائعة التي استهلها بقوله :
وَفاؤُكُما كَالرَبعِ أَشجاهُ طاسِمُه
بِأَن تُسعِدا وَالدَمعُ أَشفاهُ ساجِمُه
فاعلية الوزن و القافية في تشكيل اللغة و المعنى :
ه--------------------------------------
و الشعر البيتي صَبٌّ للفن في قالبي الوزن و القافية .
فالوزن و القافية يجنحان بالشاعر كثيرا لاختيار هذه الكلمة .. أو هذه الجملة .. تقديما و تأخيرا حينا و تسلسلا حينا آخر .. اقترافا للضرورات المقبولة و غيرها .. إنه الفنّ و لأجله يجوز ما لايجوز في غيره ..
فلعل الشاعر أراد أن يقول ( في الشطر الثاني ) :
و في قلبي وردة لك و رسالة حب
أو :
و أنا أحمل في يدي لك وردة و قصيدة ..
فما سمح له القالب بذلك فقال ما قال
و لو كان القالب يسمح للشاعر أن يقول كل ما يريد وفق ما يريد لسقط الشعر و انتصر النثر
إن جمال الشعر - كما يقول المنظّرون و النقاد - كامن في الانحراف عن لغة النثر ..!
عود على بدﺀ :
ه-----------------
و بيت نزار صافح الأسماع و أحدث هزة في نفوس المتلقين :
الشاعر مغرم بتونس ضمن إطار تحويل المكان إلى حبيبة ..
ألم يقل محمود درويش :
إنني العاشقُ و الأرضُ الحبيبةْ
ألم يقل السياب لزوجه إقبال حين زارته مريضا في الكويت :
الملتقى بكِ و العراقُ على يديَّ هوَ اللقاﺀْ
ألم يقل نزار نفسه من قبل :
فرشتُ فوقَ ثراكِ الطاهرِ الهدبا
فيا دمشقُ لماذا نبدأ العتبا ؟
حبيبتي أنتِ فاستلقي كأغنيةٍ
على ذراعي و لا تستوضحي السببا
فنزار يأتي تونس الخضراﺀ شاعرا عاشقا .. لا يخفي حبه .. بل يسمو به و يشمخ
الوردة التي تُهدى للحبيبة مع هذه القصيدة دلالة الحب و الشعر ..
أجيئك شاعرا محبا .. لا سياسيا كما جاﺀ الآخرون ..
أجيئك مظهرا ما لك عندي فهو على جبيني وسام يتمثل في الوردة و الكتاب
لو قلنا انطلق خالد إلى اليرموك و جبينه يتقد كالشمس .. لساغ ذلك
فالجبين مكان للوسم الحسن أو لوصمة العار
و هو أعلى الوجه:
( سيماهم في وجوههم من أثر السجود )
و كثيرا ما نرى العشاق يحتفظون بوردة في كتاب .. تذبل و لا يذبل الحب .. فلا يُفرّط فيها ..
لكن نزارا جاﺀ بالوردة و الكتاب مجازا يلوحان في جبينه عنوانا له في دخوله العاصمة الخضراﺀ
حلب : 2021/11/7م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق