لغتنا الجميلة
في الشعر .. أوصافه و أنواعه
البحث السادس .. في الشعر المطبوع و المصنوع
جاء في كتاب " العمدة في آداب الشعر و آثاره " لابن رشيق القيرواني :
الشعر .. مطبوع و مصنوع
المطبوع هو الأصل الذي وضع أولا ، و عليه المدار .
و المصنوع ، و ان وقع عليه هذا الاسم ، فليس متكلفا تكلف أشعار المولدين ، لكن وقع في هذا النوع ، الذين سموه صنعة من غير قصد و لا تعمُّد، وانما بطباع القوم عفوا ، فاستحسنوه ومالوا اليه بعض الميل ، بعد أن عرفوا وجه اختياره على غيره ، حتى صنع زهير الحوليات على وجه التنقيح و التثقيف .
و لم يكن العرب لينظروا في أعطاف شعرهم ، بأن يجنسوا ، أو يطابقوا ، أو يقابلوا ، قيتركوا لفظة للفظة ، أو معنى لمعنى ، كما فعل المحدثون ،. انما كان نظرهم في فصاحة الكلام و جزالته ، و بسط المعنى و ابرازه ، و اتقان بنيته الشعرية ، و احكام عقد القوافي ، و تلاحم الكلام بعضه ببعض .. حتى عدوا من فضل صنعة الحطيئة ، حسن نسقه الكلام بعضه على بعض. . في قوله من الوافر :
فلا و أبيك ما ظلمت قريع ... بأن يبنوا المكارم حيث شاءوا
ولا و أبيك ما ظلمت قريع ... و لا برموا لذاك و لا أسـاءوا
بعثرة جارهم أن ينعشوها ... فيغبر حـــــوله نعـــــم و شاء
فيبني مــــجدهم و يقيم فيها ... و يمشي ان أريد بها المشاء
و ان الجار مثل الضيف يغدو ... لوجهته و ان طــال الثواء
و اني قد علقت بحبـــــل قوم ... أعانهم على الحسب الثراء
و كذلك قول أبي ذؤيب الهذلي يصف حمر الوحش و صائدها من قصيدته المشهورة ..
من الكامل و القافية من المتدارك ،فهي أعجب تصنيعا للشعر و التي مطلعها :
أمن المنون و ريبها تتفجع ... و الدهر ليس بمعتب من يجزع
يقول :
فوردن و العيــــــوق رابئ الــ ... ــضرباء خلف النجـــــــم لا يتتلع
فكَرَعْنَ في حجراتِ عذبٍ باردٍ ... حَصِبِ البطاح تغيب فيه الأكرع
فشربن ثم سمعن حســـــا دونه ... شرف الحجاب و رب قرع يقرع
فنكرنه فنفـــــرن فامترست به ... هوجاء هادية ، و هاــــــدٌ جرشع
فرمى فأنفـــــــذ من نجود عائط ... سهما فخـــرّ .. و ريشه متصمع
فبدا له أقــــــراب هـــــــذا رائغا ... عجلا فعيّث في الكــــنانة يرجع
فرمى فألحق صاعديا مطحـــــرا ... بالكشح فاشتملت عليه الأضلــع
فأبـــــدَّهن حتوفهــــــــــن فهارب ... بدمائــــه .. أو بارك متجعجع
و لو نظرنا لرأينا هذا النسق الجميل و الرائع كيف أطرد له ، و لم ينحلّ عقده ، و لا اختل بناؤه ، و لولا ثقافة الشاعر ، و مراعاته اياه ، لما تمكن له هذا التمكن .
و قد استطرف العرب ما جاء من الصنعة في البيت و البيتين في القصيدة بين القصائد يستدل بذلك على جودة شعر الشاعر ، و صدق حسه و صفاء خاطره ،. فأما اذا كثر ذلك ، فهو عيب يشهد بخلاف الطبع ، و ايثار الكلفة .. كما يتأتى في أشعار حبيب ( أبي تمام ) و البحتري و غيرهما ،. و قد كانا يطلبان الصنعة ، و يولعان بها . فأما حبيب ، فكان يذهب الى حزونة اللفظ ، مع التصنيع المحكم طوعا و كرها . أما البحتري ، فكان أملح لفظا و أحسن مذهبا في الكلام . يسلك منه دماثة و سهولة ، مع احكام الصنعة و قرب المأخذ ، لا يظهر عليه كلفة و لا مشقة . و ما ُ يعلم شاعر ، أكمل و لا أعجب تصنيعا من شعر ابن المعتز ، فان صنعته خفية لطيفة لا تكاد تظهر في بعض المواضع الا للبصير بدقائق الشعر .
كذلك فان مسلم بن الوليد ( صريع الغواني ).. اخذ بالصنعة في شعره الا أنه أكثر سهولة من شعر حبيب ، و أقل تكلفا . و لم يكن في الأشعار المحدثه قبل مسلم ، الا النبذ اليسيرة ، و هو يعتبر زهير المولدين .. اذ كان يبطئ في صنعته ، و يجيدها .
و يقال : أول من فتق البديع من المحدثين ، هو بشار بن برد ، و ابراهيم بن هرمة ، ثم اتبعه مقتديا بهما ، كلثوم بن عمرو ( العتابي ) ، و منصور النمري ، و أبو نواس ، و اتبع هؤلاء حبيب الطائي و البحتري ، و عبدالله بن المعتز ، الذي انتهى علم البديع و الصنعة اليه ، و ختم به .
و يقال : ان البيت ، اذا وقع مطبوعا في غاية الجودة ، ثم وقع في معناه بيت مصنوع في غاية الحسن ، لم تؤثر عليه الكلفة ، و لم يظهر عليه التعمل .. كان المطبوع أفضلهما .
و كان الجاحظ يقول :
" كما لا ينبغي أن يكون اللفظ عاميا ، و لا ساقطا سوقيا ، فكذلك لا ينبغي أن يكون وحشيا ، الا أن يكون المتكلم به بدويا أعرابيا . فان الوحشي من الكلام يفهمه الوحشي ، كما يفهم السوقي سوقي الكلام . "
قيل : و أنشد رجل شعرا ـ فاستغربه القوم ، فقال : و الله ما هو بغريب ، و لكنكم في الأدب غرباء .
و قال رجل لآبي تمام بعد انشاده شعرا ، و أراد تبكيته :
لماذا لا تقول من الشعر ما يفهم ؟! فأجابه : لمَ لا تفهم من الشعر ما يقال ؟ . فأبكته .
و قال البعض : ان أبا تمام كالقاضي العدل ، يضع اللفظة موضعها ، و يعطي المعنى حقه ، بعد طول النظر و البحث عن ابينة ( أدلة ) .. أما أبا الطيب ، فكالملك الجبار ، يأخذ ما حوله قهرا و عنوة ، أو كالشجاع الجريء ، يهجم على ما يريده ، لا يبالي ما لقي ، و لا حيث وقع .
و كان الأصمعي يقول : زهير و النابغة ، من عبيد الشعر ، . يريد أنهما يتكلفان اصلاحه ، و يشغلان به حواسهما و خواطرهما .
و كذلك كان طفيل الغنوي ، و كان يسمى " محبرا " لحسن شعره .. و روى له زهير .
و منهم الحطيئة و النمر بن تولب ، و كان يسميه أبو عمرو بن العلاء " الكيس " .
و كان بعض الحذاق بالكلام يقول :
قـُــلْ من الشعر ما يخدمك .. و لا تقل من الشعر ما تخدمه .
و من أجمل ما قيل في هذا الموضع و أبلغه .. قول الأحيمر السعدي في وصيته .. من الطويل :
من القول ما يكفي المصيب قليله ... و منه الذي لا يكتفي الدهر قائله
يصد عن المعنى فيترك مانحـــــا ... و يذهب في التقصير منه يطاوله
فلا تك مكثـــارا تزيد على الذي ... عنيت به في خطب أمــــر تزاوله
..
في رقة النسيب والشعر المطبوع
قالوا في رقة التشبيب
و من الشعر المطبوع الذي يجري مع النفس رقة ، و يؤدي عن الضمير ابانة . غزل العباس بن الأحنف :
و ليلة ما مثلها ليلة ... صاحِبُها بالنحس مفجوع
ليلة جئناها على موعد ... نسري و داعي الشوق متبوع
لما خبت نيرانها و انكفأ الســ ...ـامر عنها و هو مصروع
قامت تثنى و هي مرعوبة ... تود أن الشمل مجموع
حتى اذا ما حاولت خطوة ... و الصدر بالأرداف مدفوع
الخ .. القصيدة
و في معناه لبشار بن برد :
سيدي لا تأت في قمر ... لحديث وارقب الدَّرُعا
و توقّ البدرَ ليلتنا ... انه واش ، اذا سطعا
و له أيضا :
يقولان لو غربت قلبك لارعوى ... فقلت و هل للعاشقين قلوب
الأصمعي قال : سمع كثير عزة ينشد شعر جميل بن معمر ، الذي يقول فيه :
ما أنت و الوعد الذي تعدينني ... الا كبرق سحابة لم تمطر
تُقضى الديون و ليس يقضى عاجلا ... هذا الغريم و لست فيه بمعسر
يا ليتني ألقى المنية بغتة ... ان كان يوم لقائكم لم يـُـقدر
يهواك ما عشت الفؤاد و ان أمت ... يتبع صداي صداك بين الأقبر
فقال كثير : هذا و الله الشعر المطبوع ، ما قال أحد مثل قول جميل ، و ما كنت الا راوية لجميل ، و لقد أبقى للشعراء مثالا يحتذى عليه .
و سمع الفرزدق رجلا ينشد شعر عمر بن أبي ربيعة ، الذي يقول فيه :
فقالت و أرخت جانب الستر انما ... معي فتحدث ، غير ذي رِقبة أهلي
فقلت لها ما لي بهم من ترقب ... و لكن سري ليس يحمله مثلي
حتى انتهى الى قوله :
فلما تواقفنا عرفت الذي بها ... كمثل الذي في حذوك النعل بالنعل
فقال الفرزدق : هذا و الله الذي أرادته الشعراء فأخطأته ، و بكت على الطلول .
و انما عارض بهذا الشعر جميلا بشعره الذي يقول فيه :
خليلي فيما عشتما هل رأيتما ... قتيلا بكى من حب قاتله قبلي
فلم يصنع عمر مع جميل شيئا .
ينتهي هنا بحثنا عن المطلوع و المنصنوع
و سيكون لنا لقاء آخر باذن الله .. عن مقاظع الشعر و مخارجه
..................
خالد ع . خبازة
اللاذقية
المراجع : عدد من كتب التراث
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق