تحية صباح
ذات مساء ، مر أمامي أب بدا عليه العياء فحاولت أن أقرأ في ملامحه نظرته للحياة ، قيمة الوجود من خلاله وهو يعكس إحدى صور الإنسان . رأيته يمسك بيده اليمنى رغيفا يابسا وبيده اليسرى ابنا نحيلا ضعيفا ، قسمات وجهه تعلن الشقاء ،بشرته السمراء لفحتها حرارة الشمس فبدت داكنة تقارب السواد وتشققت في خطوط حادة تأثرا بفسوة الشتاء ، أما عيناه فبدتا جاحضتين تائهتين في الأفق البعيد تناشدان بصيصا من النور عله يشعر بشيء من السرور لكن هيهات ،هيهات لم يجد ما يمكنه من العبور للطرف الآخر من الحياة ، يظنه بر الأمان بعيدا عن القهر ،عن الحاجة آه من غليان قلب أي أب حين يشعر بالعجز أمام قلة ذات اليد ، فكم يقض مضجعه الجوع ، أليس الجوع مولدا للشرور . وحين تأملت في تفاصيل وجهه رأيت شفتين ملتهبتين من كثرة التدخين يرسمان ابتسامة باهتة باردة المعنى .....كان المسكين يخطو بثقل وكأنه يعلن الإنهزام والندامة ، يحدق في ابنه بقلب مكسور حزين ومن حين لحين يتركه ليمسح جبينه العريض وقد تصبب منه عرق البؤساء ثم يضعها على صدره الغاص بالآهات ،بالأنين و لكنه ورغم كل شيء يبقى كتوما فلا تسمع له صوتا ، حزنه دفين فهو مدرك تماما أن ابنه الصغير ولد يتيما من الأ حلام ، يتوسد الحجارة ،يحتضنه الحطام ،بيته ركام ، غده وعود كلها أوهام ،صدقا الأب مسكين والصبي أكثر فدون اختيار منه حدده القدر سجين واقع أبيه المكلوم الذي ورثه الألم ، الحسرة لأنه لم ينعم بملذات الدنيا وليس له الحق في إعلان أبسط الشهوات ، رغبات يعشقها كل الأطفال إلا هو و أمثاله من العيال المحرومين ،المحكوم عليهم بتجاهل الأشياء على بساطتها وتراه يتصرف بكبرياء ، باستهزاء ، فلا يعنيه سوى أن يعيش مع أبيه تلك اللحظة تغمره حنانا ، تملأه صفاء،هل يرغب في شيء أكثر من ذلك الدفء الذي يتسلل لجسمه ويصل لقلبه الصغير وهو متمسك بيد أبيه ،فخشونة جلدها تعلمه الإعتراف بالجميل لذاك الرجل العظيم الذي ما ينفك يجاهد صباحا مساء من أجل تلك اللحظة وهما يقفان جنبا إلى جنب لغتهما رضا بالمقسوم متحديا ن الفقر إذ رفضا الإنخراط في التواكل والتوسل والإستجداء ....وكنت شديد الإنبهار بتلك الصورة الأنيقة للأبوة وللإبن الذي ارتوى نضجا من رحم المأساة وبقيت أتساءل : كيف سيواصل هذا البرعم الصغير السير بقدم تخدشها الأشواك ،، هل سيتحمل أن يعيش ولهفته للفرحة تولد مع طلوع الشمس وتموت على أعتاب ظلام الليل ، أبإمكانه أن يحافظ على التفاؤل بالغد رغم أن يومه يجهض على بقايا الألوان فالمشهد قاتم رهيب ،من له القدرة ليدفن بلا رجعة اليأس حتى تنبعث في هذا الولد الرغبة في الإنطلاق بحب نحو الحياة وجاءني الرد : إذ وحتى يخفف عن أبيه سمعته يقول : لا بأس يا أبتي كم أنا محظوظ ،فحياتنا رغم كل مصاعبها تجعلني أشعر كم نحن سعداء ،عهدنا الوفاء لاننا جميعنا ههنا مع بعضنا وذاك كاف ليجعلنا أقوياء ،أغنياء رغم أننا فقراء.. وتنفس الأب وهو الممتن لهمسات ابنه الصغير إذ حررته من إحساسه بالعجز بالتقصير وانطلق يرفرف كطير جريح يحاول رغم الوجع أن يعلي أكثر بالسماء ويستمر هكذا متشبثا بيد طفله الذي جعله ينسى الأسى بما تعمق في ذاته من معاني نبيلة للحياة : الإكتفاء ،التآزر والعطاء بكل سخاء . دون أن أبحث في الأسباب وجدتني أعانق ذلك الطفل الصغير وأقدم له بعض قطع الحلوى فهللت أسارير وجهه سعادة وامتنانا وقبلني بكل براءة الأطفال .نظر لي الأب المسكين وأراد أن يجازيني ودون أن يتردد تقدم نحوي قائلا : علمونا أن الفقير يجود بما عنده وليس لي سوى رغيف فلنتقاسمه لو تسمح ....لم أدر كيف ركبت سيارتي بعد أن قضمت قطعة صغيرة من ذاك الرغيف وبقيت ألوكه على طول الطريق وكم كان لذيذا معتقا بمعنى الكرم والجود ، معجونا بالحب ومصنوعا بالصدق وملفوفا بالحنان .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق