الأربعاء، 3 يونيو 2020

د. عز الدين حسين أبو صفية. قصة قصيرة ماسح الأحذية :::

قصة قصيرة 

ماسح الأحذية  :::

مضى على زواجهما عشرون عاما ولم ينجبا أيٍّ من الأطفال رغم رغبتهما بأن يكون لديهم طفلاً يربيانه ويكون لهما سنداً في شيخوختهما ولكن إرادة الله فوق كل رغبة وفوق كل إرادة.
كانت حياتهم نموذجا صامتا للأسرة الفقيرة والمحتسبة فقرها عند الله وكان لسان حالهما في صلاتهم وقيامهما ودعائهما أن يرزقها الله رزقاً حلالاً طيباً مباركاً فيه وأن ينجبا ولو طفلا واحداً يملأ عليهما فراغ الحياة وينير درب أملهما في الحياة.
كانت ظريفة تظن أن سبب عدم انجابها أطفالاً هو عقم أصاب زوجها خميس والذي كان بدوره يظن بأن سبب عدم تمكنهما من الإنجاب هو عقم زوجته ظريفة، ولكن لم يحاول أيٍّ منهما بالحديث في موضوع الإنجاب حتى لا يجرح مشاعر الآخر، ولسوء أحوالهم المادية والفقر الذي يعانيان منه لم يقوما بزيارة أي طبيب لمعرفة أسباب عدم انجابها.
كان خميس شاباً يافعا أسمر البشرة شعره الأسود المتجعد يضفي عليه  مسحةً من الحزن ، لم يتجاوز في تعليمه الصفوف الدنيا من مرحلة التعليم الأساسي، وهذا ما تمكن والده من توفيره له مما دفع به لترك الدراسة والبحث عن عمل يوفر له ولوالدته لقمة العيش بعد أن توفى والده بعد أن انهكه مرض السل الذي نهش رئتيه على مدى عدة سنوات عاشها في غرفة لا تدخلها الشمس وتعشش فيها الرطوبة.
تنقل خميس في عدة مجالات من العمل فقد عمل عتالا في أحد أسواق الخضار ومارس مهنة النظافة وجمع القمامة من أمام المحال في السوق، ما مكنه من تلقط بعض النقود التي تساهم في استمرار حياته وزوجته.
جلس خميس على حافة الرصيف يتلقط أنفاسه ليستريح من عناء العمل وبيده نصف رغيف أعطاه إياه صاحب أحد المحال التجارية من ما فاض عن حاجته من طعام، أثناء ذلك انتبه خميس إلى ذلك العجوز الذي يجلس قبالته في الجهة الأخرى من الرصيف وهو يجلس على لوح خشبي صغير ومرتفع عن الأرض ما يقارب الشبر الواحد ويضع أمامه صندوقا خشبياً، ادهشه المشهد وعندما كان يقف بعض الرجال أمامه ويضع من أتى دوره قدمه وبها حذاؤه على ظهر الصندوق في المكان المخصص لذلك حيث يبدأ العجوز بفتح علب بها مواد مختلفة من ألوان الورنيش (البوية) الخاصة بدهان الجزم.
نهض خميس من مكانه واتجه للجانب الآخر من الرصيف وتوقف بمحاذاة ماسح الأحذية يراقب عمله بدقة فاستهوته المهنة، وأصبح مواظباً على الحضور يومياً أثناء وقت استراحته ليشاهد هذا العجوز وهو يمارس تنظيف وتلميع الأحذية بالورنيش، وفي كل مرة كان خميس يسأل ويستفسر عن أسرار هذه المهنة وعما يحصله العجوز من مكسب مادي، ومع مرور الزمن نمت علاقة بينهما وأصبح العجوز عندما يذهب للصلاة في المسجد يترك الصندوق عند خميس ويسمح له بتلبية رغبات الزبائن من تنظيف ودهان احذيتهم حتى أصبح يمارس هذه المهنة بمهارة كبيرة.
مرض العجوز ولم يعد يقوى على ممارسة عمله فقرر ترك هذه المهنة والتفرغ للصلاة والعبادة ، فأهدى الصندوق وكل محتوياته لصديقه خميس وهو يقول له كم أنا مطمئنا لك ولجدارتك في عملك وأنا أهديك هذا الصندوق وكل محتوياته على أن تخصص بعض المال مما تجنيه تمنحها للفقراء صدقة عن روحي بعد مماتي.
تغير مجرى حياة خميس فبدأ يمارس مهنته الجديدة كماسح احذيه وتمتع بخبرة ومهارة في ذلك مما زاد من عدد وتنوع زبائنه.
كان خميس يجلس منذ صباح كل يوم عند مفترق تقاطع تجمع المؤسسات الحكومية، مما سهل عليه العمل وحضور أعداد كثيرة من موظفي المؤسسات لتلميع ودهان احذيتهم وبعضهم يحضر أحذية أخرى لنسائهم يتركوها في الصباح عند خميس وبعد الانصراف من أعمالهم تكون جاهزة فيدفعون تكاليف دهانها بعد أن يستلموها.
تقدم خميس من خلال بعض المسؤولين بطلب للحصول على رخصة من بلدية المدينة بإنشاء كشك خشبي يقضي به وقت قيلولته ويمارس مهنته بداخله عندما يقوم بتلميع ودهان الأحذية التي يحضرها له موظفي المؤسسات الحكومية.
طرأ تحسن كبير على حياة خميس وأصبح لديه أموال تمكنه من استئجار بعض الصبية ويزودهم بصناديق وعلب البوية ويرسلهم لأماكن مختلفة لممارسة مهنة مسح  وتلميع الأحذية في مختلف نواحي وأسواق المدينة وتجمعات الناس، فأصبح عنده عدد من المأجورين الذين يعودون إليه كل مساء ويسلموه الصناديق وما حصَّلوه من أموال مقابل مسح ودهان الأحذية.
كانت ظريفة كل يوم وقت الظهيرة تذهب بطعام الغذاء لزوجها وتتناوله معه داخل الكشك الخشبي، وكان خميس يطلعها على أسرار المهنة وكيفية ادائها بشكل جيد وكان يسمح لها بممارسة المهنة ومسح أحذية الموظفين التي يحضرونها من بيوتهم والخاصة بنسائهم وبناتهم، فاكسب ذلك ظريفة مهارة كبيرة في مسح الأحذية بشكل عام واحذية النساء بشكل خاص، وأصبحت الكثير من النساء تسأل عنها فسمح لها خميس بالحضور معه صباحاً للعمل ومسح أحذية النساء داخل الكشك الخشبي.
ذاع صيت خميس وزوجته ظريفة ولمعت شهرتهما في مهنة مسح الأحذية ونمت صداقتهما مع الكثير من المسؤولين والمسؤولات اللاتي سمح تطفل احداهن بسؤال ظريفة عن عدد أطفالها، صمتت ظريفة ودموع حزينة انهمرت من عينيها، وهي تقول عشرون عاماً من  الزواج ولم ننجب حتى الآن.
ما هو المانع يا ظريفة ومن قد يكون عقيماً منكما  وهل اجريتا اي فحوصات لذلك ؟ 
كانت جميع إجابات ظريفة على هذه الأسئلة بكلمة واحدة لا.
دهشت المسئولة هبة وقررت أن تساعد ظريفة ومتابعة حالتها واصطحبتا إلى أحد المراكز الصحية الذي قرر عمل عملية زراعة وأن وبعد فحص زوجها خميس لم يكن هناك معيقات للزراعة و الإنجاب،.
مضت الأشهر ولم يتغير على حياة خميس وظيفة أي شيء إلا أن الانتظار والأمل أصبح أكثر سيطرة على تفكيرهما.
في صباح ذاك اليوم حضر خميس إلى الكشك مبكراً وأخذ يرش المياه أمامه ويزينه بالورود ووضع على مدخله لوحةً كبيرة كتب عليها الحمد والشكر لله رب العالمين . اليوم ولد الأمل... ألف مبروك . 
انهال العديد من المارة والموظفين يهنئون خميس بمولوده الجديد والوحيد الذي رزقه الله به بعد عشرون عام من الزواج وبدأ ينشر الرياحين وزهور الياسمين ويوزع الحلوى الشيكولاتة على الجميع.

د. عز الدين حسين أبو صفية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق