الخبزِ اليابسُ
في قريةٍ منفيةٍ خلفَ رُكن الضَّبابِ حيثُ الزَّمنُ المنسيُّ
و رغيفُ الخبزِ اليابسُ و جدارُ الطِّينِ المُتهاويْ و حبَّاتُ المطرِ الَّتيْ
تُعاندُ الرِّيحَ و تهجرُ الغيمةَ لتحضنَ أترابَها و تتناثرَ ندفاتٍ كالرِّيشِ
على أبخرةِ المداخنِ و تلحدَ القرميدَ القرمزيَّ
أوجهٌ مزرقةٌ و أجسادٌ تلتحف الصَّمتَ و أناملُ ترتجفُ من الزَّمهريرِ
و أنفاسٌ تلهثُ بحثاً عن شعلةِ دفءٍ خلفَ أبوابٍ أكلَها الصَّدى و جمَّدَ أوصالَها الزائرُ الأبيضُ
وبلَّلَ مزلاجَها عرقُ الفقيرِ المتصبِّبُ من ألمِ العوزِ
يتهاوى خلفَ درهمِ قوتٍ أو قارورةِ وقودٍ تقيه بردَ الفاقةِ و صوان القلوبِ المتحجرةِ قبلَ أن تتخشَّبَ أوصالُهُ و تخبوَ أنفاسُهُ..
عيونٌ مغرورقةٌ ترويْ أبلغ عباراتٍ و أصدقَ معاناةٍ و صوتٍ متهدجٍ و هو
يلهجُ (الرِّزقُ منْ عندِ اللهِ )...
يلمُّ أطرافَ ثوبِهِ الرثِّ البالي الَّذي لا يجمعُ و لا يرقعُ على جسدٍ نحيلٍ اضناهُ قِصَرُ اليدِ و ضيقُ الحالِ..
يسيرُ مثقلاً بهمومِهِ متكئاً على عُكازِ الأملِ الهشِّ.. الحصاةُ و الجليدُ تجرحانِ قدميهِ العاريتينِ إلَّا من بقايا حذاءٍ منّ به عليه أحدُ ميسوري الحالِ في القريةِ منذُ دهرٍ سحيقٍ
واستمر يتخبط وتثلَّمَ رأسُهُ وأكتافُهُ بحبَّاتِ البَرد و هو ينحدرُ على طريقٍ متعرجةٍ ضيقةٍ يحذرُ زلَّةَ قدمٍ في هوَّةِ الوادي السَّحيقِ
وتتفتَّقُ رئتاهُ و يحمرُّ خدَّاه من صفعاتِ البردِ .. و الرِّيحُ العاتيةُ تجلدُ أضلاعَهُ و تقرحُ جلدَهُ لكنَّهُ صامدٌ يكابدُ و
يصارعُ عكسَ التَّيَّارِ و يتأمَّلُ أشجارَ الصَّنوبرِ المتراميةَ أمامَهُ الَّتي كلَّلَها طهرُ الثلجِ الناصعِ و غصنُ السنديانةِ الذي عرَّتْهُ الريحُ و قصفَتْهُ العاصفةُ..
يحاولُ التقاطَ بعضِ ما جادَتْ به شجرةُ الخروبِ (الخرنوبِ )
علَّها تدرُّ عليه قليلاً من الدِّبسِ يُسكتُ به أفواهَ فلذةِ كبدِهِ المتضورةِ جوعاً
و يتبعُ ذاكرةَ الشمِّ الشحيحةَ أمامَ هولِ لفحاتِ البردِ القرِّ
ويحنيْ ظهرَهُ المقوَّسَ لالتقاطِ حباتِ البلوطِ المتراميةِ هنا و هناك
و في البعيدِ شلال تجمّد أخفاه الضبابُ عنِ النَّواظرِ..
و نبعُ ذكرى يزعقُ اختلطَ بنحيبٍ مدوٍّ من معدةٍ خاويةٍ إلا من الماءِ و كسرةٍ من رغيفٍ لم تقْوَ أسنانُهُ على قضمهِ..
و انحدرَ إلى مغربِهِ بعدَ أن خارَتْ قواهُ يستندُ إلى شجرةِ السَّروِ
يلتقطُ أنفاسَهُ الهاربةَ.. يستمدُّ ثباته من جذورِها فهي موطنُهُ وملاذُهُ الأخيرُ و مسرحُ ذكرياتِهِ الضائعةِ في متاهاتِ الغدِ المجهولِ.
بقلمي .م. فاتنة فارس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق