نصّ جديد للكاتب التونسي : أحمد بو قرّاعة
الأُخُوَّةُ العربيّة
"موقِفُنَا الأوّل أيّها المسافِرون قُبَيْلَ آذان الإفطار"
كانت الرحلة من أبو ظبيٍ.إلى.دمشق وسيلتُنَا في ذلك الحافلة……لم يكن لي صبرٌ على طريقٍ سالكُهَا مَهْلُوك ومعانٍ لا ريب أمراضًا و أوجاعًا :سيجارة وَقُودٌ لأخرى ،و ما كنت اعلم من الفقه سوى معاني اللّفظة و لكنّي كنت أعلم عين اليقين أنّ الله تعالى يحبُّ أن تؤتى رُخَصُهُ فيسّرتُ ورَخّصْتُ وحلّلْتُ لنفسي سرّا، ومن يجرُؤ في الخليج المؤمن أن يفطِر جهارا؟و ركبنا الحافلة .نظيفةٌ مرشوشةٌ فيها الرّوائح الطيّبة .و أُذِنَ للسّائق فتحرّكتْ.و ما كادت مؤخِّْرتها تودّعُ موففَهَا حتّى اسْتنارتْ وجوهٌ كان التّعَبُ يغشاها و تلألأتْ عيون كان النّوم يُثْقلُهَا،و ضحكتْ أفواهٌ لأواني صغيرة استوتْ فوق رُكَبٍ عدّلَتْ كالميزان بها أرزّ و تمرٌ و حليب.
وسألتُ عن آذان المغرب فقيل لي بعد ساعة .و نظرتُ في المسافرين فإذا انا الصّائم الوحيد الفريد.و أجاز لي مجاوري الإفطار و المشاركة فافتعلتُ الإمتناع و أظهرتُ الخوف و تظاهرتُ بالورع فقال لي:الأخ من حلب؟فقلتُ و نعم البلد و الأهل و لكنّي من تونس،فرحّب سريعا بلسان أثقلهُ الجرشُ مُحْتارٍ بين النّطق يحَاولُهُ و بين الشّارد من حبّاتِ الرزّ يرُدُّ مُنْزَلَقَهَا إلى الحفْرَةِ و يعسرُ عليه لحسُ الحليب المنْفَلِتِ إلى الذّقنِ.فابتسمتُ لهُ بفمٍ مجبودِ الطّرفين إلى الأذنين.لا يكادُ الرّجُلُ يمضغ حتّى ينتفخ بُلِعُومُهُ و يتكوّرُ فيطلِقُ نفسًا كان محصورًا في غارٍ مسدُودٍ.هفتَ ليسْتَرِيحَ و قال لي :جيّد ....جيّد...نعرفُ إيمان الإخوةِ التوانْسهْ....حسن.....و حاصرتْ أصابعهُ الأرزّ بالتمر و ضغطهُ في فمه و نظر إليَّ و ضحك حتّى كاد يُرْجعُ ما كان يبلعُ فابتسمْتُ لذلك الميزان المعتدل و الجاروش المُبْتَلِع ابتسامَةَ المُتَفَهِمٍِ الطَّعَنَ و طأطأتُ لأذيَّتِهِ كيْ تمُرَّ مرَّ التَّمْر الصَّحيحِ في حلْقِهِ.
. وتناوم المسافرون تناوم القطط إذا شبعتْ .و جرتْ الحافلة تلقفُ الطّريق و تطويها و ترميها إلى ظهرها.وانحدرت الشّمس إلى مغيبها و كادت لا تراها عين ،و ما أظلمتْ،و توقّفتِ الحافلة فإذا نحن هُبُوطٌ في ساحة رحبةٍ نظيفةٍ مريحةٍ تدفعُ إلى غرفِ استقبالٍ واسعةٍ فسيحةٍ هواؤها باردٌ لطيفٌ.و تسابق نحونا أعوانٌ بنا يرحّبون و إلى المقاصدِ يوجّهُونَ.و سئلنا المكوثَ للرّاحة أهلا و سهلًا أو المسارعة إلى الحافلة و الطّريق سلامةً فاختار المسافرون الطّريقَ:إنّها قمارق الدّولة العربية الأولى و نكاد نتركُ ترابها إلى تراب دولة عربيّة أخرى.و جرتْ الحافلة دقائق معدودات ثمّ اَوَتْ إلى ساحةٍ مُنَارَةٍ.و جمّع السّائق منّا الجوازات و غابَ.كان الجوّ حارّا و رطْبًا خانقًا .و فينا الصّبْيانُ و النّسَاءُ:إجازة المدرّسين يعودون إلى الأردنّ و الشّام .وأُمِرْنَا بالإجتماع في السّاحة الملتهبة و قد سبقَتْنَا إليهَا حافلات .و أتْعبتني الرّطوبة الخانقة و احْترقتْ رجلي في حذائي و تبلّلتُ عرقًا كالخارج من غرفةِ الإستحمام الحامية .فنظرْتُ فإذا غرفٌ مضاءةٌ فارغةٌ مكْتُوبٌ على واحدة منها (المواطنون)و على الأخرى(الأجانب) و على الثّالثة (الوافدون)فاستشرتُ بعض العارفين فقال:ما أنت من ذي الدّيار و ما أنت بوافد عليها لعمل فأنت من الأجانب فارْتحْتُ للإستشارة و قصدتُ حيثُ عليَّ أشارَ .و ما كدتُ أجلسُ على كرسيّ في هواء باردٍ نقيٍّ في غرفةٍ نظيفة خالية حتَّى سمعتُ هاتفًا يقول:"اُخْروووجّ....أُخْرُوووجّ......"فنظرتُ فما رأيتُ أحدًا و ما عبأْتُ بهاتفٍ حانقٍ غاضبٍ يُعيدُ .وارْتحتُ في بردٍ و برودةٍ ،فجاءني رجلٌ يصيحُ ليس بين النّاب و النّابِ سوى سنٍّ واحدٍ
محفّرة و مأكولة و مكسورة ،محشوّ في كسوة مشوّش الوسط يدفعني نحو الباب يقول :هذه غرفة الأجانب و ما لسانك منهم .و أطردني إلى الحرّ إلى جوار إخوتي العرب.
الأُخُوَّةُ العربيّة
"موقِفُنَا الأوّل أيّها المسافِرون قُبَيْلَ آذان الإفطار"
كانت الرحلة من أبو ظبيٍ.إلى.دمشق وسيلتُنَا في ذلك الحافلة……لم يكن لي صبرٌ على طريقٍ سالكُهَا مَهْلُوك ومعانٍ لا ريب أمراضًا و أوجاعًا :سيجارة وَقُودٌ لأخرى ،و ما كنت اعلم من الفقه سوى معاني اللّفظة و لكنّي كنت أعلم عين اليقين أنّ الله تعالى يحبُّ أن تؤتى رُخَصُهُ فيسّرتُ ورَخّصْتُ وحلّلْتُ لنفسي سرّا، ومن يجرُؤ في الخليج المؤمن أن يفطِر جهارا؟و ركبنا الحافلة .نظيفةٌ مرشوشةٌ فيها الرّوائح الطيّبة .و أُذِنَ للسّائق فتحرّكتْ.و ما كادت مؤخِّْرتها تودّعُ موففَهَا حتّى اسْتنارتْ وجوهٌ كان التّعَبُ يغشاها و تلألأتْ عيون كان النّوم يُثْقلُهَا،و ضحكتْ أفواهٌ لأواني صغيرة استوتْ فوق رُكَبٍ عدّلَتْ كالميزان بها أرزّ و تمرٌ و حليب.
وسألتُ عن آذان المغرب فقيل لي بعد ساعة .و نظرتُ في المسافرين فإذا انا الصّائم الوحيد الفريد.و أجاز لي مجاوري الإفطار و المشاركة فافتعلتُ الإمتناع و أظهرتُ الخوف و تظاهرتُ بالورع فقال لي:الأخ من حلب؟فقلتُ و نعم البلد و الأهل و لكنّي من تونس،فرحّب سريعا بلسان أثقلهُ الجرشُ مُحْتارٍ بين النّطق يحَاولُهُ و بين الشّارد من حبّاتِ الرزّ يرُدُّ مُنْزَلَقَهَا إلى الحفْرَةِ و يعسرُ عليه لحسُ الحليب المنْفَلِتِ إلى الذّقنِ.فابتسمتُ لهُ بفمٍ مجبودِ الطّرفين إلى الأذنين.لا يكادُ الرّجُلُ يمضغ حتّى ينتفخ بُلِعُومُهُ و يتكوّرُ فيطلِقُ نفسًا كان محصورًا في غارٍ مسدُودٍ.هفتَ ليسْتَرِيحَ و قال لي :جيّد ....جيّد...نعرفُ إيمان الإخوةِ التوانْسهْ....حسن.....و حاصرتْ أصابعهُ الأرزّ بالتمر و ضغطهُ في فمه و نظر إليَّ و ضحك حتّى كاد يُرْجعُ ما كان يبلعُ فابتسمْتُ لذلك الميزان المعتدل و الجاروش المُبْتَلِع ابتسامَةَ المُتَفَهِمٍِ الطَّعَنَ و طأطأتُ لأذيَّتِهِ كيْ تمُرَّ مرَّ التَّمْر الصَّحيحِ في حلْقِهِ.
. وتناوم المسافرون تناوم القطط إذا شبعتْ .و جرتْ الحافلة تلقفُ الطّريق و تطويها و ترميها إلى ظهرها.وانحدرت الشّمس إلى مغيبها و كادت لا تراها عين ،و ما أظلمتْ،و توقّفتِ الحافلة فإذا نحن هُبُوطٌ في ساحة رحبةٍ نظيفةٍ مريحةٍ تدفعُ إلى غرفِ استقبالٍ واسعةٍ فسيحةٍ هواؤها باردٌ لطيفٌ.و تسابق نحونا أعوانٌ بنا يرحّبون و إلى المقاصدِ يوجّهُونَ.و سئلنا المكوثَ للرّاحة أهلا و سهلًا أو المسارعة إلى الحافلة و الطّريق سلامةً فاختار المسافرون الطّريقَ:إنّها قمارق الدّولة العربية الأولى و نكاد نتركُ ترابها إلى تراب دولة عربيّة أخرى.و جرتْ الحافلة دقائق معدودات ثمّ اَوَتْ إلى ساحةٍ مُنَارَةٍ.و جمّع السّائق منّا الجوازات و غابَ.كان الجوّ حارّا و رطْبًا خانقًا .و فينا الصّبْيانُ و النّسَاءُ:إجازة المدرّسين يعودون إلى الأردنّ و الشّام .وأُمِرْنَا بالإجتماع في السّاحة الملتهبة و قد سبقَتْنَا إليهَا حافلات .و أتْعبتني الرّطوبة الخانقة و احْترقتْ رجلي في حذائي و تبلّلتُ عرقًا كالخارج من غرفةِ الإستحمام الحامية .فنظرْتُ فإذا غرفٌ مضاءةٌ فارغةٌ مكْتُوبٌ على واحدة منها (المواطنون)و على الأخرى(الأجانب) و على الثّالثة (الوافدون)فاستشرتُ بعض العارفين فقال:ما أنت من ذي الدّيار و ما أنت بوافد عليها لعمل فأنت من الأجانب فارْتحْتُ للإستشارة و قصدتُ حيثُ عليَّ أشارَ .و ما كدتُ أجلسُ على كرسيّ في هواء باردٍ نقيٍّ في غرفةٍ نظيفة خالية حتَّى سمعتُ هاتفًا يقول:"اُخْروووجّ....أُخْرُوووجّ......"فنظرتُ فما رأيتُ أحدًا و ما عبأْتُ بهاتفٍ حانقٍ غاضبٍ يُعيدُ .وارْتحتُ في بردٍ و برودةٍ ،فجاءني رجلٌ يصيحُ ليس بين النّاب و النّابِ سوى سنٍّ واحدٍ
محفّرة و مأكولة و مكسورة ،محشوّ في كسوة مشوّش الوسط يدفعني نحو الباب يقول :هذه غرفة الأجانب و ما لسانك منهم .و أطردني إلى الحرّ إلى جوار إخوتي العرب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق