قطار الذكريات
---؛ -----
اعذروا نزف يراعي حين يكتب بمداد القلب على مآقي الذكريات صور البراءة والطفولة...قالها وهو يكفكف دمعة أبت ان تواري بريقها فوق وجنته..
وأردف: اذكر ان جارنا دعانا الى رحلة، و كان الوقت ربيعا رائعا، فحشرنا مع اولاده الأربع - في سعادة عارمة -في سيارته المغلقة (الفولكس واغن صالون)، لتعلو اصواتنا الطفولية مرحا، صوت هدير المحرك الذي انطلق باتجاه الريف ... ريفنا يا سادة تخجل كلمة جميل من الاقتران به، هو اكثر من رائع، هو ما كان يصدح به مذياع السيارة آنذاك (جنااااات ع مد النظر)...
كانت رائحة زهور الحمضيات عطرا تخلل كل العروق ، ونسائم الصبا تعزف سيمفونية النشوة على اوتار الجدائل وتلثم الجباه والخدود..
فجأة توقفت السيارة، وقبل ان نسأل لماذا، كان فيل الوقود يمد خرطومه؛ ويروي عروق السيارة بسخاء.. أخرج جارنا من جيبه رزمة من النقود، ناول عامل المحطة بضعة اوراق نقدية منها، وأعاد الباقي الى جيبه، واقلعت السيارة من جديد، وأقلع معها قطار الذكريات في عقلي بهدير وجلجلة......
عجبا!!.. انا لم أر والدي يخرج من جيبه رزمة مثلها من قبل.. كان كلما طلبت منه والدتي ثمن الخبز والطعام يخرج ورقة نقدية او اثنتين، ويعطيها احداها ويمضي الى عمله مسرعا.. وربما مد يده الى جيبه وخرجت خاوية.. وغادر وهو يتمتم ( ما معي، دبروا حالكون).. وكان هذا يعني تحويل بقايا الخبر اليابس وفتاته الى (فتوش او فتة) او قليه ليدعم طنجرة ( العدس المجروش)...
اعذروني فالعبرات تطبق على عنق القلم وتمنع خروج الكلمات، فقد كان هذا يتكرر كثيرا في الشتاءات الباردة حيث تحول الامطار دون ممارسة والدي عمله!... كان الكل سعيدا، والكل يتكلم الا انا، فقد بقيت واجما اقلب الفكرة في رأسي : لماذا يملك جارنا رزما من المال، عكس ابي؟ ..
قطعت السيارة الطريق من المدينة الى الريف في زمن قياسي، فقد توقفت عقارب الساعة في عقلي وهو منهمك في حل السؤال -المعضلة!..
اخيرا وجد عقلي الطفولي الاجابة: إن من يملك سيارة، يملك المال الكثير!!.. وهرعت الى حضن ابي المستلقي فوق بساط سندسي من العشب الطري وقلت له: ابي.. . !! لماذا لا تشتري سيارة؟.. واردفت موضحا فكرتي العبقرية: من يملك سيارة، تمتلىء جيوبه بالمال كجارنا!!.. فنظر الي مشفقا على براءة طفولتي وقال بصوت خرجت حروفه من بين اطناب قلبه مشفوعة بتنهيدة لم افهم مغزاها : الله كريم يا بابا.. انشا الله منشتري سيارة)!!
د. محمد جاموز
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق