الأحد، 7 مايو 2017

قصة قصيرة بقلم نجلاء عطية


كان لقاؤهما من محض تلك الصدف الرائعة التي تتجاوز المواعيد المبرمجة والأماكن المنتقاة بدقة والتحضيرات المسبقة كي يبدو كل واحد في أجمل صورة حتى يبهر الآخر ...ركبت سيارتها ملهوفة كعادتها حتى تتصدر الصف الأول في القاعة لأنها وبكل بساطة لا تحب الضجيج ولا تتحمل التعليقات السمجة التي قد يسرق بها أحدهم دون وعي لحظة من السعادة التي تبحث عنها جود وأظن لا شيء يسعد هذه الشابة أكثر من مجالستها للأدباء والمثقفين....لم تدر لم وغير عادتها لبست فستانا وهي التي لا تهوى سوى لبس الجينز الذي يحرر حركتها ويتماشى مع خطوتها المسرعة التي تشبه الجري فهي في سباق دائم مع الزمن ..وقبل أن تنطلق ،تثبتت من دفترها وقلمها وقررت أن تطبع شفتيها بلون زهري زادها سحرا فبعضهن لسن في حاجة لساعات أمام المرآة ليثبتن جمالهن ...البساطة سيدة الأناقة تبقى دون شك...وما إن وصلت أمام النزل الضخم وشاهدت تلك الأعداد الغفيرة حتى أدركت أن الشاعر من طراز آخر...القت التحية على بعض الوجوه المعروفة ثم قررت أن تدخل قاعة المحاضرة وتنتظر هناك قدوم هذا الرجل الذي طالما اعتذر ولولا أن التظاهرة تعنيه لما جاء فهو كما عرفوه لها مبدع لا يهوى كثرة الأضواء ولا يبحث عن الشهرة المستهلكة التي تفرضها هذه الأيام...وبعد قرابة الربع ساعة ،أطل الشاعر أنيقا ،واثقا من نفسه ، لبقا في رد التحية وأخذ مكانه ، كان نجما بكل معنى الكلمة ولم يضيع الكثير من الوقت في تقديم نفسه بل ترك قصائده تنطق بما يعكس شخصيته بعيدا عن التفاخر والتكبر..عاشت جود ساعتين من العمر ورأيتها تعشق الحياة ،تحتضن الأمل ،تهيم بالإنسان ،تفتخر بالمرأة ،تبكي العروبة ،تتوه وسط الوجود، تزهو من أجل الطفولة وتطير مع الأحلام ، تبتسم مرة وتمسح دموعها مرات ، تشهق مع كل محب وتزفر مع أنين كل موجوع..انتبه الشاعر لها وكان من حين لآخر ودون أن يجلب انتباه الحضور ينحني ويرفع قبعته ليحييها ، وحدها عاشت تجربة فريدة من نوعها وكم كانت تتمنى لو تلك الأمسية لا يوضع لها نقطة نهاية ولكن لحظا ت السعادة تقاس بالومضات وتأخذ حيزا كبيرا في الأعماق فتغمر الوجدان فرحا ، كفيلة من صدقها أن تمحو الألام وتغير في الألوان وتشرع أمام النفس أبوابا من الإنشراح والطمأنينة. صفق الجميع للشاعر وتزاحمت حوله المعجبات من أجل توقيع أو صورة تذكارية وبقيت جود مسمرة بمكانها ، مازالت تحوم بعيدا عن الأرض ،تحلق في سماء الشاعر وحروفه الساحرة.....انفضت الجموع وكاد المكان يخلو من الإنسان فانتبهت لنفسها وقررت أن تغادر وما إن فتحت باب القاعة حتى وجدت الشاعر واقفا أمامها في انتظارها..ارتبكت لدرجة أنها أسقطت دفترها ومفتاح سيارتها أرضا وزاد ارتباكها وعلها أوشكت على الإغماء حين انحنى الشاعر يجمع بكل هدوء أشياءها ويدعوها لأن تقبل دعوته على العشاء....لم تتردد لحظة في القبول وكأنها مسلوبة الإرادة فكل من يعرف جود ،يعلم جيدا تحفظها ورصانتها وتفكيرها الناضج قبل اتخاذ أي قرار ولكن بعض الأمور نعيشها تتجاوز فينا كل المعتاد وتتحدى ما حددناه من الممنوعات ،تهزمنا بالضربة القاضية....طلبت أمها عبر الهاتف وأعلمتها أنها ستتأخر في الرجوع إلى البيت ولم تكن مجبرة على تقديم الأسباب .... وغادرت صحبة الشاعر وانتقلا عبر سيارته الفاخرة لفندق لم تعرف أنه موجود على أرض مدينتها ،كان خال من الزبائن وكم كانت دهشتها عارمة لما ناداها الشاعر باسمها وبدا وكأنه يعرفها من فترة طويلة ....نزعت معطفها ودون أن يستأذنها مسك يدها ودخلا قاعة بها نادل وعا زف بيانو ورجل واقف عرفت بعدها أنه صاحب الفندق.. كان كل شيء ينتظر قدومهما وانطلقت الموسيقى تسمو بروحها وطلب الشاعر أن يحضروا لهما عشاء خاصا ولحد تلك اللحظة لم يتبادلا حرفا .....كانت تدرك في أعماقها أن اللحظات الرائعة لا تتحمل الكثير من الكلام ... الفعل سيد الموقف دائما وبدت متأملة في كل التفاصيل التي فكر فيها الشاعر ومع كل أمر تقرأ مميزات هذه الشخصية وجاءت لحظة الحسم ....ودون مقدمات ، اقترب منها ودعاها لرقصة الإفتتاح ووجدت نفسها بين ذراعيه وكلها ترتعش من فرط السعادة ورهبة اللقاء .....انتهت الموسيقى ولم يتركها تبتعد عنه بل قبل يدها وشكرها على قبولها دعوته ولم تعلم بم أجابت فكل كلها غائب عن الوعي ،ثمل بروعة اللقاء ....هاقد انطلق الحديث بينهما ، كان الصوت خافتا ،والحديث رقراقا ،عذبا عميقا يعزف سمفونية متفردة لا تفهم معانيها سوى جود ولم يركز نوتاتها إلا مجد ....وبعد العشاء ، انتقل بها لمكان آخر لا يقل جمالا وأناقة عن الأول وهناك بدا الحديث رومانسيا إذ انتبهت أن الشاعر ينحو بها منحى ذاتيا وحتى يشعرها بالطمأنينة قال لها: اسمعيني مليا جود : أنا...... وانطلق يقص عليها حكايته من الألف للياء وبدا صادقا في كل حرف وكانت تستمع له بكل اهتمام وبعد أن أنهى حديثه 
 نظر لها قائلا : ها أنذا وكأنك تعرفينني منذ ولدت وأشهد أني لم أخف عنك شيئا يستحق الذكر...كانت قصة حياته زاخرة بالبذخ والسعادة ،بالمجد والنجاحات المتتالية.. ضحكت بشدة وهو يطير بها في سحاب التألق والتميز منذ أن صار شاعرا مشهورا وكم جلب انتباهها عمق تجربته في الحياة ، إذ استنتجت أنه منسجم تماما مع صورته الخارجية ، إنسان لا يبحث في الزخرف بقدر ما ينقر بإتقان على وتر الحس والشعور ...دخلت عالمه ووجدت نفسها واحدة منه ،لم تشعر بالغربة رغم أنها بالكاد تعرفت على صاحبه.. وهل المرأة في حاجة لكثير من الوقت لتقبل أو ترفض من يقترب من سور مدينتها ؟ لا أظن فالحدس عند المرأة حاسة ناضجة ودقات قلبها لا تتسارع عبثا عكس ما يظنه الكثير ممن يجهلون نفسية الأنثى.. . المرأة في شعورها أصدق بكثير من الرجل وذلك مرتبط بمدى نضجها العاطفي والمحدد لسلوكاتها تجاه الطرف الآخر ....وبعد أن أتم مجد بوحه أدركت جود أنه جاء دورها في الحديث عن نفسها وكانت تعلم أن قصتها مختلفة تماما عما عاشه البطل الذي أمامها وأطلقت العنان للسانها فنطق بما لم يتصوره الشاعر ،رأى أمامه كتلة من الأحزان وهولا من المصائب وسيرة لا يتحملها قلب امرأة مثلها ولكن وبنظرة الشاعر العميقة بحث فيما أضفته تلك الفواجع من سحر على نفسية جود لتصل لتلك القوة والضعف في نفس الوقت ،حس عاطفي ونضج فكري متناهيين ،حروف، سمع صداها من القلب تتلاطم بروحه وتنثر فيها زخما من الإنسانية، كانت تتكلم وكله لهفة لألا تنقطع عن الحديث ،ينظر لها ليشرب منها بشغف كل المعاني التي ترتسم على تقاسيم وجهها ،تبتهج فرحا ،تتلبدد كما السحب متى قست عليها تجربة الوجود ، أدرك أنها له ولن يتركها تغيب عنه ولو دفع مهرها ما تبقى من سنين العمر ، فمجد رجل يحمل في طياته إصرار الفارس الذي لا يتخلى عن جواده ولو قتلوه وأظنه قد حددها كذلك ومن أجلها يبيع الدنيا ولا يتردد.. .. ودون أن يضيع أكثر مما ضاع من العمر قال : أنا أناهز الستين جود وأنت شابة..... وبكل جرأة تجاوزت خيال الرجل ، قطعت عليه حبل الكلمات التي كانت تعلم جيدا محتواها بابتسامة عريضة وسمعها بكل ثقة تقول له: العمر أعمار يا مجد وإن سألتني عن سني فسأجيبك كما أرى نفسي ،كما عشت سنيني وساعاتي فبعمر المعرفة ،أنا نطفة مازالت لم تتكون ملامحها بعد بأحشاء كتب العلم و المجلدات التي أحفظها بإتقان بمكتبتي ، أما بعمر التجربة فأنا شيخ هرم وإن بعمر المأساة فأظنني عشت آلاف السنين وأقدر طولها منذ غادر سيدنا آدم الجنة بعد أن غوته أمنا حواء ونزل للأرض وتدرك وحدك ما جناه على نفسه من متاعب وما تكبده من مشاق، أما بعمر العشق فأظنني أولد اليوم وأعلن من مكاني هذا أني زهرة تتمنى أن تتفتح فلا تضيع عليها لحظة من عمر الزهور....ما إن سمعها مجد حتى قفز من كرسيه وانحنى على ركبتيه ودون تردد طلب يدها و بكل حب قبلت ، كانت لحظة لا تتحمل التأمل ولا يجوز من أجلها التفكير فقد حسمت في أمرها منذ الوهلة الأولى وكم كانت جود تحلم بشيء مماثل لما تجسد لها واقعا لأ نها تبحث عن شخص مجنون مثلها يؤمن بان الحب فوق الموعد والزمن والعادي ،لحظة تغير في تاريخ الإنسان فإما أن يعي بقيمتها فيسعد وإما أن يضيعها ليكتب لقلبه الشقاء طول العمر... 
 تزوج مجد بجود وأنجبا طفلين كانا شاهدين على جمال تلك العلاقة في أدق تفاصيلها وبعد أن توفي حبيبها قررت أن تكتب قصتهما بحروف نابضة بالعشق والوفاء والإنتظار لمعانقة روحه من جديد... 
 بعض حكايا البشر قد لا يصدقها القارئ ولكن على هذه الأرض آمنت أن لا شيء من مستحيل ومهما اتسع خيال الكتاب والشعراء فبعض الواقع أجمل وأينع لأنه يعكس روعة اللقاء ويحتضن صدق المشاعر ويشهد على تفاصيل الدهشة ورونقها وهي ترتسم على محيا العشاق.... نعم واقعنا حزين يغطيه السواد ولكن لا أحد منا ينفي أن بعض القصص ،بعض اللقاءات ،بعض الكلمات تجعلنا نتشبث به نعانيه ، نتحمله ونرنو لساعة من الحب نحددها كل العمر ....

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق