لغتنا الجميلة
في علم البيان و البديع
البحث الخامس
الكنـــــاية .. و الاشــــارة :
هي كما أراها ..
أن يأتي الشاعر بعبارات أو بألفاظ تحمل معان معينة .. و لكن يستشف منها معنى آخر قصده الشاعر ..
وكذلك ، أن يذكر المتكلم شيئا ، و هو يريد شيئا آخر .. كقولك :
فلان نقي الثوب .. أي لا عيب فيه ،
و طاهر الجيب .. أي ليس بغادر ،
و دنس الثوب .. أي فاجر ،
و مغلول اليدين .. أي بخيل ،
و منها قول الرسول ( ص ) :
" اياكم و خضراء الدمن " و هي المرأة الحسناء في منابت السوء .. الخ ..
و الأمثلة كثيرة .
و الكناية ..
أبلغ من التصريح فيما قصد بها.. و كان تقديمها أعوَن للمعنى الذي جلبت لأجله .
جاء في كتاب البيان و التبيين للجاحظ :
" و قال بعض أهل الهند :
جماع البلاغة ، البصر بالحجة .. و المعرفة بمواضع الفرصة
ثم قال :
و من البصر بالحجة ، و المعرفة بمواضع الفرصة ، أن تدع الافصاح بها ، الى الكناية عنها ، اذا كان الافصاح أوغر طريقة . و ربما كان الاضراب عنها صفحا ، أبلغ في الدرك ، و أحق بالظفر . "
و قد ميز أسامة بن منقذ في كتابه " البديع في البديع في نقد الشعر " بين الكناية و الاشارة " ، بالرغم من تقاربهما كثيرا ، و أنهما من بنية واحدة . يقول :
اعلم أن الفرق بين الكناية و الاشارة .. أن الاشارة الى كل شيء حسن ، و الكناية الى كل شيء سيء .
كقوله تعالى : " فيهن قاصرات الطرف " اشارة الى عفافهن .
و كقوله تعالى : " فرش مرفوعة " اشارة الى نساء كرام . وكقوله : " أرضا لم تطأها " .. اشارة الى سبي النساء .
و قوله تعالى : " كانا يأكلان الطعام " .. كناية عن قضاء الحاجة ..
و أنا كما أرى .. ليس هناك فارق كبير .. بين الاشارة و الكناية .
و من الأمثلة عن الكناية قول العرب :
طويل نجاد السيف . كناية الى ارتفاعه عن الدنايا .
و كقولهم :
فلان عظيم الرماد ، او ناره لا تطفأ .. هي كناية الى كثرة القرى و الكرم .
و كقولنا .. يكثر الرماد في ساحة عمرو ... كناية عن أن عمرا مضياف
و أروي هنا قصة طريفة حول الكناية :
و قفت امرأة على قيس بن سعد بن عبادة ، فقالت :
أشكو اليك قلة الجرذان . قال :
ما أحسن هذه الكناية ! .. املؤوا بيتها خبزا و لحما و سمنا و تمرا .
فهي لم ترد أن يكون بيتها مليئا بالجرذان .. و انما هي أشارت كناية الى خلو بيتها من المؤونة .
و رأى أحدهم رجلا سمينا .. فقال له :
أرى عليك قطيفة من نسج أسنانك
و لذا ..
فانني أرى أنه لا حاجة بنا الى التمييز بين الاشارة و بين الكناية ، كما يراها أسامة بن منقذ في كتابه البديع في البديع.. فالاشارة ما هي الا كناية ، سواء أكانت اشارة الى شيء حسن ، أم كانت كناية الى شيء سيء . فجميعها تدخل فيما يسمى في علم البديع " الكناية " .
و ان أسبق الناس الى الكناية ، و الى هذا المعنى ، امرؤ القيس ، في قوله :
و يضحي فتيت المسك فوق فراشها
........................ نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل
يعني بقوله نؤوم الضحى ، أنها مخدومة من بنات الملوك . أي أنه تبقى نائمة فهناك من يقوم بمهام المنزل .
و يقول عمر بن أبي ربيعة :
بعيدة مهوى القرط ، اما لنوفل
..................... أبوها و اما عبد شمس و هاشم
و يقصد بقوله بعيدة مهوى القرط .. مشيرا الى طول عنقها و هو كناية جميلة .
و يقول عنترة :
بطل كأن ثيابه في سرحة
................ يحذى نعال السبت ، ليس بتوأم
السرحة : جمعها سَرْح ، و هو نوع من الشجر الكبير و الطويل ، يستظل تحته .
و قد أشار عنترة الى أن ثيابه في سرحة .. كناية عن طول قامته ،
و قصد بقوله : يحذى نعال السبت ، الى أنه ملك ،
و بقوله : ليس بتوأم ، الى أنه قوي شديد .
و قد أعجبني في موضوع الكناية ما كتبه عمرو بن مسعدة الى المأمون :
" أما بعد .. فقد استشفع بي فلان ، في الحاقه بنظرائه ، فأعلمته أن أمير المؤمنين ، لم يجعلني في مراتب الشافعين ، و لو فعلت ذلك ، لتعديت طاعته .. و السلام .. "
فوقع المأمون في كتابه :
" قد عرفنا تصريحك له ... و تعريضك لنفسك .. فأجبناك اليهما ، ووقفناك عليهما .."
و من الكنايات الجميلة أيضا قول المتنبي في رثاء أخت سيف الدولة :
و ان تكن تغلب الغلباء عنصرها ... فان في الخمر معنى ليس في العنب
و انني لم أر في شرح موضوع الكناية هنا ، أحسن مما جاء في أطروحة الصديق الدكتور أحمد مبارك الخطيب " الانزياح الفني في شعر المتنبي " التي نال بها شهادة الدكتوراه في الادب .. حيث يقول في تحليل البيت المذكور ما يلي :
" يقول أبو محسّد " المتنبي " :
وان تكن تغلب الغلباء عنصرها ... فان في الخمر معنى ليس في العنب
فالمرثية .. أخت سيف الدولة تنتسب الى قبيلة " تغلب " العزيزة المنيعة " الغلباء " فهناك القبيلة ، و بنت القبيلة .. و اذا كانت القبيلة ذات شأن فان لابنة تغلب ( اخت سيف الدولة ) المزايا و الصفات ما يفوق قبيلتها .. و هو ما يفهم من الشطر الثاني من البيت .. فالعنب بالرغم من جودته ، فانه يتحول الى مادة أكثر جودة ، و هي الخمر .. و ان الشاعر يريد أن يقول : ان المرثية تحمل من الصفات و المزايا ما يفوق أصلها ، بالرغم من أنه أصل كريم ، فلجأ المتنبي الى التعبير الكنائي و انزاح عن التعبير الأصلي ، ليؤدي هذه الصورة الشعرية المبتكرة ، وهي دليل على أن طرفي الشطر الأول ، القبيلة و ابنة القبيلة ، ينهضان معا في موازاة الشطر الثاني ، العنب و الخمرة .. اذا بذلك التقابل بين المعنيين ، نستطيع أن نجد للفكرة معادلها اللغوي ، و بها تتحول عاطفة المتنبي الثرية نحو الموضوع الى مادة لغوية أكثر ثراء .. "
و من الكناية أيضا قولي في قصيدة :
و ليالٍ سُمّارُها الراحُ و الحبُّ
........................ و ظبيٌ وصبحُنا حيثُ صاحا
و سألنا الشموسَ تغربُ فجرًا
........... و ذممنا على الشروق الصبـــاحا
كناية عن أن الصباح افسد اللقاء
و قولي :
ولا خيرَ في خلٍّ و لا في خليـقةٍ
....................... اذا لم يلامسْ فعلـُــهُنَّ الأضــــالِــعا
و أكثرُ ما يؤذيكَ غدرٌ من امرئ
....................... مددتَ له الأيدي .. فعضَّ الأصابِعا
كناية عن قلة الوفاء لمن أحسن .. و مقابلة الحسنة بالاساءة
أما الاشارة
فالاشارة من غرائب الشعر و ملحه .. و فيها بلاغة عجيبة تدل على بعد المرمى و فرط المقدرة ، و لا يأتي بها الا الشاعر المبرز ، و الحاذق الماهر ، و هي في كل نوع من الكلام لمحة دالة .. يقول زهير بن أبي سلمى :
فاني لو لقيتك و اتجهنا ...
................... لكان لكل منكرة كفاء
فقد أشار له الى قبح ما كان يصنع لو لقيه . و اعتبر البعض هذا البيت أفضل بيت في الاشارة .
و قال الآخر :
جعلت يديَّ وشاحا له
..................... و بعض الفوارس لا يعتنق
و من أجود ما وقع في هذا النوع قول النابغة يصف طول الليل :
تقاعس حتى قلت ليس بمنقض
..................... و ليس الذي يرعى النجوم بآيب
" الذي يرعى النجوم " يقصد به الصبح ، أقامه مقام الراعي الذي يروح و يغدو بالابل و الماشية ؛ فيكون تلميحه هذا عجبا في الجودة .
أرجو ان اكون قد وفقت في التويضيح .. و سيكون لنا .. باذن الله .. لقاء آخر في نوع من البديع
مع تحياتي القلبية
*****
خالد ع . خبازة
اللاذقية
المراجع .. عدد من كتب التراث
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق