السبت، 16 يناير 2021

لغتنا الجميله...بقلم الشاعر... خالد خبازة


 لغتنا الجميلة


في علم البيان و البديع


البحث الخامس


الكنـــــاية .. و الاشــــارة  :


هي كما أراها ..


أن يأتي الشاعر بعبارات أو بألفاظ تحمل معان معينة .. و لكن يستشف منها معنى آخر قصده الشاعر ..


وكذلك ، أن يذكر المتكلم شيئا ، و هو يريد شيئا آخر .. كقولك :


فلان نقي الثوب ..  أي لا عيب فيه ،


و طاهر الجيب ..  أي ليس بغادر ،


و دنس الثوب ..  أي فاجر ،


و مغلول اليدين .. أي بخيل ،


و منها قول الرسول ( ص ) :


" اياكم و خضراء الدمن " و هي المرأة الحسناء في منابت السوء .. الخ ..


و الأمثلة كثيرة .


و الكناية ..


أبلغ من التصريح فيما قصد بها.. و كان تقديمها أعوَن للمعنى الذي جلبت لأجله .


جاء في كتاب البيان و التبيين للجاحظ :


" و قال بعض أهل الهند :


جماع البلاغة ، البصر بالحجة .. و المعرفة بمواضع الفرصة


ثم قال :


و من البصر بالحجة ، و المعرفة بمواضع الفرصة ، أن تدع الافصاح بها ، الى الكناية عنها ، اذا كان الافصاح أوغر طريقة . و ربما كان الاضراب عنها صفحا ، أبلغ في الدرك ، و أحق بالظفر . "


و قد ميز أسامة بن منقذ في كتابه " البديع في البديع في نقد الشعر " بين الكناية و الاشارة " ، بالرغم من تقاربهما كثيرا ، و أنهما من بنية واحدة . يقول :


اعلم أن الفرق بين الكناية و الاشارة .. أن الاشارة الى كل شيء حسن ، و الكناية  الى كل شيء سيء .


كقوله تعالى : " فيهن قاصرات الطرف " اشارة الى عفافهن .


و كقوله تعالى : " فرش مرفوعة " اشارة الى نساء كرام . وكقوله : " أرضا لم تطأها " .. اشارة الى سبي النساء .


و قوله تعالى : " كانا يأكلان الطعام " .. كناية عن قضاء الحاجة ..


و أنا كما أرى .. ليس هناك فارق كبير ..  بين الاشارة و الكناية .


و من الأمثلة عن الكناية قول العرب :


طويل نجاد السيف . كناية الى ارتفاعه عن الدنايا .


و كقولهم :


فلان عظيم الرماد ، او ناره لا تطفأ ..  هي كناية الى كثرة القرى و الكرم .


و كقولنا .. يكثر الرماد في ساحة عمرو ... كناية عن أن عمرا مضياف


و أروي هنا قصة طريفة حول الكناية :


و قفت امرأة على قيس بن سعد بن عبادة ، فقالت :


أشكو اليك قلة الجرذان . قال :


ما أحسن هذه الكناية ! .. املؤوا بيتها خبزا و لحما و سمنا و تمرا .


فهي لم ترد أن يكون بيتها مليئا بالجرذان .. و انما هي أشارت كناية الى خلو بيتها من المؤونة .


و رأى أحدهم رجلا سمينا .. فقال له :


أرى عليك قطيفة من نسج أسنانك


و لذا ..


فانني أرى أنه لا حاجة بنا الى التمييز بين الاشارة و بين الكناية ، كما يراها أسامة بن منقذ في كتابه البديع في البديع.. فالاشارة ما هي الا كناية ، سواء أكانت اشارة الى شيء حسن ، أم كانت كناية الى شيء سيء . فجميعها تدخل فيما يسمى في علم البديع " الكناية " .


و ان أسبق الناس الى الكناية ، و الى هذا المعنى ، امرؤ القيس ، في قوله :


و يضحي فتيت المسك فوق فراشها


........................ نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل


يعني بقوله نؤوم الضحى ، أنها مخدومة من بنات الملوك . أي أنه تبقى نائمة فهناك من يقوم بمهام المنزل .


و يقول عمر بن أبي ربيعة :


بعيدة مهوى القرط ، اما لنوفل


..................... أبوها و اما عبد شمس و هاشم


و يقصد بقوله بعيدة مهوى القرط .. مشيرا الى طول عنقها و هو كناية جميلة .


و يقول عنترة :


بطل كأن ثيابه في سرحة


................ يحذى نعال السبت ، ليس بتوأم


السرحة : جمعها سَرْح ، و هو  نوع من الشجر الكبير و الطويل ، يستظل تحته .


و قد أشار عنترة الى أن ثيابه في سرحة .. كناية عن طول قامته ،


و قصد بقوله : يحذى نعال السبت ، الى أنه ملك ،


و بقوله : ليس بتوأم ، الى أنه قوي شديد .


و قد أعجبني في موضوع الكناية ما كتبه عمرو بن مسعدة الى المأمون :


" أما بعد .. فقد استشفع بي فلان ، في الحاقه بنظرائه ، فأعلمته أن أمير المؤمنين ، لم يجعلني في مراتب الشافعين ، و لو فعلت ذلك ، لتعديت طاعته .. و السلام .. "


فوقع المأمون في كتابه :


" قد عرفنا تصريحك له ... و تعريضك لنفسك .. فأجبناك اليهما ، ووقفناك عليهما .."


و من الكنايات الجميلة أيضا قول المتنبي في رثاء أخت سيف الدولة :


و ان تكن تغلب الغلباء عنصرها ... فان في الخمر معنى ليس في العنب


و انني لم أر في شرح موضوع الكناية هنا ، أحسن مما جاء في أطروحة الصديق الدكتور أحمد مبارك الخطيب " الانزياح الفني في شعر المتنبي " التي نال بها شهادة الدكتوراه في الادب ..  حيث يقول في تحليل البيت المذكور ما يلي :


" يقول أبو محسّد " المتنبي " :


وان تكن تغلب الغلباء عنصرها ... فان في الخمر معنى ليس في العنب


فالمرثية .. أخت سيف الدولة تنتسب الى قبيلة " تغلب " العزيزة المنيعة " الغلباء " فهناك القبيلة ، و بنت القبيلة .. و اذا كانت القبيلة ذات شأن فان لابنة تغلب ( اخت سيف الدولة ) المزايا و الصفات ما يفوق قبيلتها .. و هو ما يفهم من الشطر الثاني من البيت .. فالعنب بالرغم من جودته ، فانه يتحول الى مادة أكثر جودة ، و هي الخمر .. و ان الشاعر يريد أن يقول : ان المرثية تحمل من الصفات و المزايا ما يفوق أصلها ، بالرغم من أنه أصل كريم ، فلجأ المتنبي الى التعبير الكنائي و انزاح عن التعبير الأصلي ، ليؤدي هذه الصورة الشعرية المبتكرة ، وهي دليل على أن طرفي الشطر الأول ، القبيلة و ابنة القبيلة ، ينهضان معا في موازاة الشطر الثاني ، العنب و الخمرة .. اذا بذلك التقابل بين المعنيين ، نستطيع أن نجد للفكرة معادلها اللغوي ، و بها تتحول عاطفة المتنبي الثرية نحو الموضوع الى مادة لغوية أكثر ثراء .. "


و من الكناية أيضا قولي في قصيدة :


و ليالٍ سُمّارُها الراحُ و الحبُّ


........................ و ظبيٌ وصبحُنا حيثُ صاحا


و سألنا الشموسَ تغربُ فجرًا


........... و ذممنا على الشروق الصبـــاحا


كناية عن أن الصباح افسد اللقاء


و قولي :


ولا خيرَ في خلٍّ و لا في خليـقةٍ


....................... اذا لم يلامسْ فعلـُــهُنَّ الأضــــالِــعا


و أكثرُ ما يؤذيكَ غدرٌ من امرئ


....................... مددتَ له الأيدي .. فعضَّ الأصابِعا


كناية عن قلة الوفاء لمن أحسن ..  و مقابلة الحسنة بالاساءة  


أما الاشارة


فالاشارة من غرائب الشعر و ملحه .. و فيها بلاغة عجيبة تدل على بعد المرمى و فرط المقدرة ، و لا يأتي بها الا الشاعر المبرز ، و الحاذق الماهر ، و هي في كل نوع من الكلام لمحة دالة .. يقول زهير بن أبي سلمى :


فاني لو لقيتك و اتجهنا ...


................... لكان لكل منكرة كفاء


فقد أشار له الى قبح ما كان يصنع لو لقيه . و اعتبر البعض هذا البيت أفضل بيت في الاشارة .


و قال الآخر :


جعلت يديَّ وشاحا له


..................... و بعض الفوارس لا يعتنق


و من أجود ما وقع في هذا النوع قول النابغة يصف طول الليل :


تقاعس حتى قلت ليس بمنقض


..................... و ليس الذي يرعى النجوم بآيب


" الذي يرعى النجوم " يقصد به الصبح ، أقامه مقام الراعي الذي يروح و يغدو بالابل و الماشية ؛ فيكون تلميحه هذا عجبا في الجودة .


أرجو ان اكون قد وفقت في التويضيح .. و سيكون لنا .. باذن الله .. لقاء آخر في نوع من البديع


مع تحياتي القلبية


*****


خالد ع . خبازة


اللاذقية


المراجع .. عدد من كتب التراث

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق