الأحد، 26 ديسمبر 2021

القافية : بقلم الشاعر...احمد السيد


 القافية : متوقعة أو  صادمة أو مقحمة 


في أحد المنتديات الثقافية سأل باحث أكاديمي فاضل هذا السؤال : 


( ماذا يقصد المرزوقي بقوله"وأما القافية فيجب أن تكون كالموعود به المنتظر.. يتشوقها المعنى بحقه واللفظ بقسطه"

هل فيكم من يشرح القول تكرما ؟ )


فكتبت مجيبا : 


أخي الكريم ..

و أنت في دراساتك الأكاديمية العليا  لا يفوتك أن أهل الشعر و الأدب في القديم كنظرائهم في الحديث ايسوا لونا واحدا ..فمنهم من كان يرفض التقليد و المحاكاة و يدعو إلى الابتكار و التجديد و أبرزهم في العصر العباسي الشاعر أبو تمام ..

و أما المرزوقي فينتصر لعمود الشعر و يؤسس عليه و من ذلك رأيه التقليدي في القافية ..

ففحوى رأيه أن القافية لا يستحسن أن تكون صادمة ..بل لابد أن تأتي نتيجة متوقعة من حيث اللفظ و المعنى ..

فمثلا قول زهير بن أبي سلمى : 


سئمت تكاليف الحياة و من يعش 

ثمانين حولا لا أبا لك ( ....) 


فالقافية هنا متوقعة ضمن المعطيات التالية : 

- الروي في القصيدة ميم مكسورة : مِ 

- جواب الشرط الجازم في هذا الحيز الوزني القصير فعل مضارع مسند إلى مفرد غائب : 

من يعشْ يَ..مِ 

- إن الشاعر ينتقل في التعبير من الخاص " سئمتُ تكاليف الحياة " إلى العامّ تعليلا لحالته و تعميقا لفكرته و برهنة عليها : من يعش ثمانين حولاً - أي كما عشت أنا - يَ..مِ 


لا يمكن أن تكون القافية سوى ( يسأمِ) 

و لو سكت عنها لرددها مستمعوه بكل بساطة ..


أما قول المتنبي في وصف شعراﺀ عصره :


و من الناسِ من يجوز عليه 

شعراﺀٌ   كأنَّها       الخازِبازِ 


فآية الشعر في هذا البيت هي كلمة القافية ( الخازِبازِ) التي تعني طنين الذباب .

يقول : بعض الناس لا يميزون بين الشعر الجميل و الشعر الرديﺀ الذي يشبه طنين الذباب ...!

ألا ترى أن هذه القافية صادمة و غير متوقعة فهي على نقبض ما يؤمله المرزوقي .


و هذان النوعان من القافية مقبولان و يتفاوت الشعراﺀ في مستوى الإبداع فيهما .


أما القافية المرفوضة فهي المقحمة ..التي تعبر عن ضعف الشاعر الذي يضطر لكلمة القافية لأنه لم يجد أنسب منها ..و في الأشعار الفايسبوكية أمثلة كثيرة من هذا النوع ..و لكنني أنأى عن التجريح فأضرب هذا المثال : 


عيناكِ يا جميلتي  الصغيرةْ 

كالشهد كالسماﺀ  كالجزيرةْ 


فكلمة ( الجزيرة ) مقحمة ..

فالعينان كالشهد : حلوتان 

و كالسماﺀ : زرقاوان أو بعيدتا المنال ..

و لكن كيف تكون العينان كالجزيرة ؟ 

لا بد من التأوّل و التقوّل و البحث عن رابط ما ...


و لا بد من التنويه إلى أن المرزوقي يقصد بالقافية هنا آخر كلمة في  البيت ..


أمثلة عن هذه الأنواع :

ه................................

تقول الشاعرة الصيدلانية السيدة  لمياء فرعون : 


ودعت حرفي دفتري و دواتي 

فبكى عليّ من الأسى (أبياتي)


توديع الحرف  و الحبر و الدفاتر سيفضي بالترتيب أن يبكي الشعر على صاحبه ..و لما كان التصريع في البيت الأول واردا بقوة فالمعبر عن الشعر : أبياتي .

إنها قافية متوقعة صناعة و منطقا .


و يقول الشاعر الفلسطيني العذب الأستاذ عمر هنداوي : 


فالنفس تأمر بالمعاصي فاعصها 

و اجنح إلى الآيات و ( القرآنِ) 


فروي النون المكسورة تاليةً لألف المد يقتضي أن تجنح للقرآن من باب عطف الكل ( القرآن ) على الجزﺀ ( الآيات ) وفق بلاغة الإطناب و لك أن تقول إن الشاعر عطف المعنى على المعنى نفسه توكيدا .


و في قصيدة جميلة تتغنى أنشودةُ الشعر هبة الفقي بلغة الضاد ..و مما تقول : 


قَدْ أَصْبَحَتْ  لُغَـِتـي في أَوْجِ  قُوَّتِها 


لَحْدَ الْمُحالِ وأَضْحَـتْ لِلْمُنــى مَهْدا ..


فالمعنى و التصوير رائعان : اللغة العربية بلغت حد القوة فلا تعرف مستحيلا ..أي تعبر عن أدق المعاني و عن شتى العلوم و الفنون و المشاعر ..

و أضحت للمنى مهدا : كل آمالنا في هذه اللغة العظيمة إذ هي هويتنا و كنزنا و رابطة أجيالنا و أقطارنا و شعوبنا ..


نعم ..القافية محتملة و قد رشحها ذكر اللحد في الشطر الأول .


و أما شاعر الكنانة معروف عمار فيستهل نصا له بقوله :


أي الجوابين في عينيك يقصدني 

ألوصلُ ما   قالتا  أم  قالتا عتبا ؟


فهذه قافية صادمة لا يرشحها شيﺀ ..فهي قافية المطلع ..و قد ترك الشاعر التصريع ..ثم إنه يترجم لغة عيني الحبيبة : 

أهو الوصل ؟ 

( القافية المحتملة كان يمكن أن تكون هي الهجر أو ما يرادفه ..بناﺀ على تقنية التضاد الواردة في هذا الأسلوب .

و لكن الشاعر يختار : 

أم قالتا عتبا 

و العتب لا يكون إلا بين المحبين ..فهل تطلب عيناكِ وصلا أم أنها تشعرني بالتأخر فتعاتبني ..

فهذه القافية الصادمة في غاية الإبداع و الشعرية .

و من القافية الصادمة قول  الشاعر السوري الشيخ مصطفى قاسم عباس  : 


أسجّي   شيخ   شعري   فوق  نعش 


و يصرخ طفل حرفي : هل هرمت ؟ 


فالشاعر الشاب يصور شعره و قد بلغ الشيخوخة ..و لعله صائر إلى الموت مجازا ..لكونه بلغ مبلغا لا مزيد عليه - كما يظن - على أنه في بداياته نسبيا ..في طفولة حرفه ..و لذلك يصرخ هذا الحرف الصبيّ البريﺀ : هل هرمت ؟ 

في الحقيقة إنني أقرأ هذه القافية على أنها صادمة مولدة لدلالات عديدة رائعة ..

و لو أن الشاعر قوّل حرفه بهذه الجملة : 

ما كبرتُ 

لكانت القافية متوقعة لا ريب ..


و من القوافي المقحمة ما أسوقه دون تعليق ..: 

قال أحدهم : 


القدسُ   أمٌّ   و   بنتٌ     للحضاراتِ 

تفنى القرونُ و تبقى بعدها ( شمْسا ) 


و قال آخر : 


أيا   ربّاهُ     إن     الذنبَ    ذنبي 

فسامحني و سامح من (يعيشُ ) 


و قال ثالث : 


ربوا البنين على التهذيبِ كي تصلوا 

حتى النجوم بلا ريب و لا ( سبب) 


و كيف يمكن الوصول للنجوم دون أسباب ؟ 

لا ضرورة للتحايل فالقافية مقحمة ..


و قال متغزّل : 


وجهُكِ قد علّمَني الأحزان و الشوقا 

وجهك قد أملى عليَّ الشعرَ و البرقا 


التمس لأخيك المقحم ( البرقا ) عطفا على( الشعر ) عذر الضعف .


هامش : 

المرزوقي : شاعر أديب نحوي من القرن الهجري الخامس .شرح ديوان الحماسة و كذلك المفضليات .


أحمد السيد 

حلب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق