لغتنا الجميلة
البحث الثامن عشر
في سرقات الشعراء و اقتباساتهم و توليدهم لمعاني بعض من سبقهم
كثيرا ما كانت الشعراء يغيرون على اشعار غيرهم فياخذون منها و يضيفون و كانوا كثيرا ما يبدعون بتوليدهم المعاني و استخراجهم صورا بيانية رائعة..
فهل يعتبر ذلك سرقة .. أم ابداعا
نقول :
ان الأمر يختلف بين أن يأخذ الشاعر معنى انفرد به من سبقه .. فزاد عليه أو اقتبس منه نتفة و قام بتطويرها بحيث يخرجها اخراجا جديدا و صورة مختلفة بديعة
جاء في كتاب " العمدة ... " لابن رشيق :
اعلم بأنك متى ما نظرت بعين الانصاف ، و قطعت بحجة العقل ، علمت أن لكل ذي فضل فضله . و لا ينفع المتقدم تقدمه ، و لا يضر المتأخر تأخره .) :
و المخترع من الشعر ،هو ما لم يسبق اليه قائله و لا عمل أحد من الشعراء قبله نظيره ، أو ما يقرب منه .. كقول امرئ القيس من الطويل و القافية من المتواتر :
سموت اليها بعدما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالا على حال
فانه أول من طرق هذا المعنى و ابتكره ، و سلم الشعراء اليه ، فلم ينازعه أحد اياه .
و قوله من الطويل أيضا :
كأن قلوب الطير رطبا و يابسا ... لدى وكرها العناب و الحشف البالي
و ما زالت الشعراء تخترع و تولد ..
و التوليد أن يستخرج الشاعر معنى من معنى لشاعر تقدمه ، أو يزيد عليه زيادة ..
لذلك يسمى بالتوليد ، و ليس بالاختراع . و لا يمكن اعتبار ذلك سرقة
كقول امرئ القيس :
سموت اليها بعدما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالا على حال
فقال عمر بن أبي ربيعة من السريع و القافية من المتدارك :
فاسقط علينا كسقوط النوى ... ليلة لا ناه و لا زاجر
فولّد معنى مليحا اقتدى به بمعنى امرئ القيس دون أن يشركه بشيء من لفظه ، أو ينحو نحوه الا في المحصول ، وهو لطف الوصول الى حاجته في خفية .
و أما الذي فيه زيادة فكقول جرير يصف الخيل من البسيط :
يخرجن من مستطير النقع دامية ... كان آذانها أطراف أقلام
فقال عدي بن الرقاع يصف قرن الغزال من الكامل :
تزجي أغن كأن ابرة روقه ... قلم أصاب من الدواة مدادها
فولد بعد ذكر القلم ، اصابته مداد الدواة ، بما يقتضيه المعنى .، اذ كان لون قرن الغزال أسودا .
و أورد هنا بعضا من تناوله الشعراء بالتوليد .. و أحيانا لا تخرج عن السرقة الموصوفة
قال أبوالعلاء المعري :
و العيس أقتل ما يكون لها الظما ... و الماء فوق ظهورها محمول
و قال أديب اسحق ( شاعر معاصر )زز ور بما الشعر صمنه تضمينا .. و لم يقصد سرقته :
كالعيس في البيداء يقتلها الظما ... و الماء فوق ظهورها محمول
و قال عبدالملك الحارثي :
و ما زرتكم عمدا و لكن ذا الهوى ... الى حيث يهوى القلب تهوي به الرجل
أخذ المعنى ابن الحجاج ( شاعر من العصر البويهي )
أمشي بقلبي لا برجلي انما ... تمشي بحسب هوى القلوب الأرجل
أما المتنبي فيقول
و كنت اذا يممت أرضا بعيدة ... سريت فكنت السر والليل كاتمه
أخ المعنى ابن زيدون فقال :
سران في خاطر الظلماء يكتمنا ... حتى يكاد لسان الصبح يغشينا
كما أخذ المعنى ابن جابر الأندلسي فقال :
بواطئ فوق خد الصبح مشتهر ... و طائر تحت جنح الليل مكتتم
و قال عمرو بن قميئة / شاعر جاهلي
كانت قناتي لا تلين لغامز ... فألانها الاصباح و الامساء
و دعوت ربي في السلامة جاهدا ... ليصحني ، فاذا السلامة داء
أخذ المعنى لبيد بن ربيعة .. فقال :
كانت قناتي لا تلين لغامز ... فألانها الاصباح و الامساء
و دعوت ربي في السلامة جاهدا ... ليصحني ، فاذا السلامة داء
و الحطيئة يقول :
ما كلف الله نفسا فوق طاقتها ... و لا تجود يد الا بما تجد
أخذ المعنى أبو تمام فقال :
فلو صورت نفسك لم تزدها ... على ما فيك من كرم الطباع
و هذا المعنى في الشطر الأول .. ربما أخه من قول حسان بن ثابت في الرسول عليه الصلاة و السلام
و أحسن منك لم تر قط عيني ... و أجمل منك لم تلد النساء
خلقت منزها من كل عيب ... كأنك قد خلقت كما تشاء
حسان بن ثابت
و قال م جميل بثينة مفتخرا
ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا ... وان نحن أومأنا الى الناس وقفوا
أخذه الفرزدق بالكامل
أبو الشيصالخزاعي يقول في أبيات متغزلا :
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخر عنه و لا متقدم
أخذ المعنى أبو نواس فزاد عليه وفأبدع ايما ابداع بقوله مادحا :
فما جازه جود ، ولا حل دونه ... و لكن يسير الجود حيث يسير
أما بشار بن برد فيقول :
من راقب الناس لم يظفر بحاجته ... و فاز باللذة الفاتك اللهج
أخذ المعنى راويته سلم الخاسر .. فاختصر .. فكان بيته أكثر بلاغة .. فغضب بشار منه غضبا شديدا .. و قال له : يا عدو الله شرقت المعنى و غدا ينتشر عرك و يموت شعري .. و بيت سلم الخاسر يقول :
من راقب الناس مات هما ... وفاز باللذة الجسور
و في أبيات قال أبو الهتاهية راثيا :
طوتك خطوب دهرك بعد نشر ... كذاك خطوبه نشرا وطيا
و كانت في حياتك لي عظات ... و أنت اليوم أوعظ منك حيا
سرق المعنى هنا الشاعر المهجري ايليا أبو ماضي .. فأخذ المعنى كاملا لفظا و معى انما قام بتغيير أماكن ألفاظه و لم يزد عليه .. و أنا برأيي أعتبر ما قام به سرقة موصوفة .. يقول :
يعظ العالم الخلائق حيا ... انما موته أجل عظاته
و امرؤ القيس يقول في معلقته
وقوفا بها صحبي علي مطيهم ... يقولون لا تهلك أسى و تجمل
أخه طرفة اب العبد في معلقته أيضا و قام بتغيير كمة القافية فقال :
وقوفا بها صحبي علي مطيهم ... يقولون لا تهلك أسى و تجلد
أو من أبيايت المتنبي الرائعة قوله
أزورها و سواد الليل يشفع لي ... و أنثني و بياض الصبح يغري بي
و ربما أخذ المعنى من القول
يقال : ان الليل ستار العيوب
و يعتبرعثمان بن جني أن المتنبي ربما أخذ هذا المعنى من قول ابن المعتز :
لا تلق الا بليل من تـــــواصله ... فالشمس نمامة .. و الليل قواد
كم عاشق و ظلام الليل يستره ... لا قى الأحبة و الواشون رقاد
و لا بد من التذكير .. أن الاقتباس شيء و هو مسموح بين الشعراء أو ما يسمى بتوليد المعاني .. و هو يختلف كثيرا عن السرقة .
...
خالد ع . خبازة
اللاذقية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق