الأحد، 30 أغسطس 2020

خالد خبازة ... لغتنا الجميلة

 لغتنا الجميلة


في الشعر و أوزانه


البحث السابع ..  مقاطع الشعر  و مخارجه ..


جاء في كتاب " العمدة ... " لابن رشيق  :


اعلم بأنك متى ما نظرت بعين الانصاف ، و قطعت بحجة العقل ، علمت أن لكل ذي فضل فضله . و لا ينفع المتقدم تقدمه ، و لا يضر المتأخر تأخره . فأما من أساء النظم و لم يحسن التأليف ، فكثير ، كقول القائل ( أحد بني جديس ) :


شرَّ  يوميها و أغواه لها ... ركبت عنز بحدجٍ جملا


شر يوميها نصبٌ على المحل ، و انما معناه ركبت عنز جملا بحدج في شر يوميها . و كقول الفرزدق :


و ما مثله في الناس الا مملكا ... أبو أمه حيٌ ، أبوه يقاربه


معناه : ما مثل هذا الممدوح في الناس الا الخليفة الذي هو خاله ، فقال : أبو أمه حي أبوه يقاربه . فبعّد المعنى القريب ، ووعّر الطريق السهل ، و لبّس المعنى بتوعر اللفظ و قبح البنية ، حتى ما يكاد يفهم . و مثل هذا أيضا ، الا أنه أقرب الى الفهم ، قول القائل :


بينما ظل ظليل ناعم ... طلعت شمس عليه فاضمحل


يريد : حتى طلعت شمس عليه . و مثله قول الآخر :


ان الكريم و أبيك يعتملْ ... ان لم يجد يوما على من يتكلْ


يريد : على من يتكل عليه . و الأعشى حيث قال ( في المخبأة )


لم تمش ميلا و لم تركب على جمل ... و لم تر الشمس الا دونها الكلل


و أبين منه قول النابغة :


ليست من السود أعقابا اذا انصرفت ... و لا تبيع بأعلى مكة البَرَما


و قد حذا حذو النابغة بعض المبرزين من أهل العصر ، فقال :


ليست من الرُّمض أشفار اذا نظرت ... و لا تبيع بفوق الصخرة الرغفا


فقيل له : ما معناك في هذا ؟ . فقال : هو مثل النابغة ، و أنشد البيت . و قال : ما الفرق بين أن تبيع البرم ، أو تبيع الرغف ، و بين أن تكون رمضاء العينين ، أو سوداء العقبين ؟! .


و انظر الى سهولة معنى الحسن بن هانئ ، و عذوبة ألفاظه ، في قوله :


حذر امرئء ضريت يداه على العدا ... كالدهر فيه شراسة و ليان


و الى خشونة ألفاظ حبيب الطائي ( أبي تمام ) في هذا المعنى ÷ حيث يقول :


شَرَسْتَ بل لنتَ بل قابلت ذاك بذا ... فأنت لا شك فيك السهل و الجبل


و قد يأتي من الشعر ما لا فائدة له و لا معنى ، كقول القائل :


الليل ليل ، و النهار نهار ... و الأرض فيها الماء و الأشجار


و قال الأعشى :


انّ محلا و ان مرتحلا ... و ان في السفْر اذ مضى مَهَلا


و قال ابراهيم الشيباني الكاتب :


" قد تكون الكلمة ، اذا كانت مفردة حوشية بشعة ، حتى اذا وضعت في موضعها ، و قرنت مع أخواتها ، حسنت " . كقول الحسن بن هانئ :


" ذو حصر أفلت من كر القبل "


و الكر ، كلمة خسيسة ، و لا سيما في الرقيق و الغزل و النسيب ، غير أنها لما وضعت في موضعها حسنت .


و لفظة  " أيضا " ما وردت في بحر الا أفسدته ، ما لم تكن في موضعها الصحيح


و كذلك . فالكلمة الرقيقة العذبة ، ربما قبحت و نفرت اذا لم توضع في موضعها ، كقول بعضهم :


رأت رائحا جونا فقامت غريرة ... بمسحاتها جنح الظلام تبادره


فأوقع الجافي الجلف ، هذه اللفظة غير موضعها ، و بخسها حقها حين جعلها في غير مكانها حقا ، لأن المساحي ( جمع مسحاة ) لا تصلح للغرائر .


و يقول ابن رشيق :


و اعلم أنه لا يصلح لك شيء من المنثور و المنظوم الا أن يُجرى منه على عِرق ، و أن يتمسك منه بسبب . فأما ان كان غير مناسب لطبيعتك ، و غير ملائم لقريحتك ، فلا تنضِ مطيتك في التماسه ، و لا تتعب نفسك في ابتغائه ، باستعارتك ألفاظ الناس و كلامهم ، فان ذلك غير مثمر لك ، و لا مجد عليك ما لم تكن الصناعىة ممازجة لذهنك ، و ملتحمة بطبعك .


و اعلم أن من كان مرجعه اغتصاب نظم من تقدمه ، و استضاءته بكوكب من سبقه ، و سحب ذيل حلة غيره ، و لم تكن معه أداة تولد له من بنات ذهنه و نتائج فكره ، الكلام الجزل و المعنى الحفل ، لم يكن من الصناعة في عير و لا نفير ، و لا ورد و لا صدر ، على أن سماع كلام الفصحاء المطبوعين ، و درس رسائل المتقدمين ، هو على كل حال مما يفتق اللسان ، و يقوي البيان ، و يُحد الذهن ، و يشحذ الطبع ، ان كانت فيه بقية ، و هناك خبيّة .


و اعلم أن العلماء ، شبهت المعاني بالأرواح ، و الألفاظ بالأجساد و اللباب . فاذا كتب الكاتب البليغ المعنى الجزل ، و كساه لفظا حسنا ، و أعاره مخرجا سهلا ، و منحه دلاّ مونقا ، كان في القلب أحلى ، و للصدر أملا . و لكنه بقي عليه أن يؤلفه مع شقائقه و قرنائه ، و يجمع بينه و بين أشباهه و نظائره ، و ينظمه في سلكه كالجوهر المنثور ، الذي اذا تولى نظمه الناظم الحاذق ، و تعاطى تأليفه الجوهري العالم ، أظهر له باحكام الصنعة ، و لطيف الحكمة ، حسنا هو فيه ، و كساه و منحه بهجة هي له . و كذلك ، كلما احلولى الكلام ، و عذب و راق ، و سهلت مخارجه ، كان أسهل ولوجا في الأسماع ، و أشد اتصالا بالقلوب ، و أخف على الأفواه ،. لا سيما اذا كان المعنى البديع مترجما بلفظ مونق شريف ، لم يسمه التكلف بميسمه ، و لم يفسده التعقيد باستهلاكه ، كقول ابن أبي كريمة :


قفاه وجه و الذي قفاه ... مثل قفاه يشبه الشمسا


فهجّن المعنى بتعقيد مخرج الألفاظ . و أخذه الحسن بن هانئ ، فأوضحه و سهله ، حيث قال :


بأبي أنت من غزال ... بزّ حسن الوجوه حسن قفاكا


و كلاهما أخذه من حسان بن ثابت حيث يقول:


قفاؤك أحسن من وجهه ... و أمك خير من المنذر


و قد يأتي من الشعر في طريق المدح ، ما الذم أولى به من المدح ، و لكنه يحمل على محمل ما قبله و ما بعده . و مثله قول حبيب :


لو خر سيف من العيوق منصلتا ...ما كان الا على هاماتهم تقع


( و العيوق : اسم نجم في السماء ) . و هذا لا يجوز ظاهره في شيء من المدح ، و انما يجوز في الذم و النحس ،. لأنك لو وصفت رجلا بأنه أنحس الخلق ، لم تصفه بأكثر من هذا . و ليس للشجاعة فيه وجه . لأن قولهم : " و لو خر سيف من السماء لم تقع الا على رأسه " . هذا رأس كل نحس .


...............


 


خالد ع . خبازة


من كتاب  العمدة   لابن رشيق القيرواني


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق