الاثنين، 26 ديسمبر 2016

قصة نفور بقلم منى الصراف

قصة
نفور
النفور السلبي في خيال طفل من الأماكن المقدسة، وممارسات دينية تعدُّ من الخرافة لاستغلال موارد ذلك المقدس، وحين يتحول رجل الدين أو الدكتاتور لمزحة في أفواه الناس ستكون نهايتهم قريبة لا محالة . والله الذي له دين في رقابنا مقابل خلقه ايانا ، ويجب التسديد طوعاً او كرهاً !.
 كانت تلك المرة الأولى لحسن ابن السنوات الست للذهاب إلى مكان مقدس مع والدته، وأُخته التي تكبره بعامين. بعد أنْ جزعت تلك الأم من التوسلات إلى الله بأنْ ينعم عليها بحياة أكثر رفاهية، ولو بحدودها الدنيا، وزوج ما انفك يعتلي صهوة حصانه ليقاتل نظاما دكتاتوريا ما استطاعت قوى الشعب أجمعها التخلص من طغيانه، وقد اصبح الان مزحة ومدعاةً للسخرية في أفواه الناس
. - الله يا امي كم جميلٌ هذا المكان ورائعٌ .. كاد قلبه يخرج من حنايا صدره الصغير . وأخذ يركض في الصحن كما الفراشات مع اخته، ويجوبه ذهابا وايابا، ويتأملُه بشيء من الرهبة، فقد كان المكان مهيباً بكل تفاصيله للكبار قبل الصغار فللصحن عشرة أبواب، لكل بابٍ منها تسمية محلية معينة للدلالة عليها، وهناك أيضا ثلاثة أروقة سقوفها مزينة بالآيات القرآنية الكريمة، وتتدلى منها الثريات الزاهية. تستخدم الأروقة للصلاة حين تضيق قاعة الصلاة في الداخل، أرضيات من الرخام وسقوف من الزجاج الأبيض بأشكال هندسية رائعة. ويطلُّ على الرواق الخارجي ثلاثة أبواب: واحد من الذهب واثنان من الفضة .
 . وبينما كان يجوب المكان هو وأُخته، كانت الأُم تقيم صلاتها، وترتل ادعيتها، والدموع تملأ أوردتها وقلبها قبل عيونها . استوقف الاطفال رجل بعمامة فوق رأسه يحمل في يده قطعة من القماش خضراء اللون زاهية، قد قُصَّت بعناية على شكل اشرطة توضع على معصم الزائرين للتبرك بهذا المكان ، غمرهم الفرح حين وضعها في معصميهما وسرعان ما ذهبت عنهم تلك الغبطة حين طلب منهم النقود بدلا عنها !! قال له حسن - عمو ماما هنا تتوسل إلى الله ليكون معنا نقود ،من أين لنا نحن تلك النقود ؟
بتجهم وانزعاج رد عليهم: عليكم اعطائي النقود بدلها.
 صرخت البنت الكبرى على اخيها وطلبت منه أن يخلع ذلك السوار من معصمه. رفض حسن تنفيذ الأمر قائلاً:- لا، لن أخلعه فهو جميل حول يدي ،
 ردت عليه: اخلعه من أين لنا تلك النقود .. وانتزعته من يده عنوة ورمته بوجه الرجل بكل غضب و بطريقة مهينة.
 غضب منهما وضربهما بالعصا بكل قسوة فأخذ حسن يبكي من وقع تلك الضربة على يديه الرقيقتين وهرب باكياً إلى حضن امه التي ما زالت تقيم صلاتها، فالدَين كبير لله وعليها التسديد طوعاً أو كرهاً !! .
 كان المكان يتسم بالإرهاب لقلب طفل لم ير قسوة من أهله يوما .. غادر المكان مسرعاً مع أمه وأخته وهو يبكي متألماً . تركت هذه الزيارة في قلب حسن أثراً بالغا، فلم يذهب بعدها مع والدته إلى هذا المكان وفشلت كل توسلاتها وإغراءاتها . خوفا من مصادفة هذا الرجل الذي أوسعه ضرباً بعصاه، وهي نفس الضربات التي كان رأس والدته ينالها أيضا بين الفينة والاخرى لخروج بعض خيوط من شعرها الرمادي اللون من تحت حجابها .. أصبح المسجد الذي بجوار دارهم يعاني إرهاباً من غارات حسن عليه في كل جمعة .. يدخل وقت الصلاة ويركل جميع الساجدين بقدمه واحداً واحداً وهم منتظمون في صفوف حين يسجدون لله .. ويأخذ جميع أحذيتهم ويرميها بشكل عشوائي في باحة المسجد، وبعضها خارجه .. بعد ان تربصوا به يوما ركضوا خلفه للامساك به لكن من يستطيع الامساك بالفراشة ! ذهبوا إلى بيت اهله مسرعين وقابلوا جدته وطلبوا منها تعنيفه، لكنها أبت أن تعنفه أمامهم .. بعد أن خرجوا طلبت منه وعدا بعدم فعلها مرة اخرى .. أعطاها هذا الوعد ولم يدخل مسجداً بحياته بعد ذلك .. حسن شاب وسيم رقيق ذكي أبيض البشرة؛ كأنَّ الشمس نسجت خيوطها الذهبية من خصلات شعره. انغمس في الوجودية والفلسفة وبين ما هو مرئي وغير مرئي .. كانت سماعة المسجد الذي بجوارهم تزعج أهل الحي من صوت مؤذنها الجديد الجهوري البشع .. ولم تنفع كل التماساتهم لتغير هذا المؤذن من قبل شيخ المسجد الذي كان المسجد له بيتا فارهاً ينعم به وأهله .. أخبر حسن أصدقاءه أنْ باستطاعته اسكات هذا الرجل والخلاص من صوته .. ونفذ غارته الجديدة على المسجد وقطع جميع اسلاك تلك السماعات وكلما اعادوا تصليحها عاد هو إلى قطعها . إلى ان تم تبديل المؤذن بآخر له صوت شجي أدخل الطمأنينة على قلوب أهل الحي ..
 تزوج حسن واصبح لديه ابنة جميله تبلغ الآن السادسة من عمرها كما كان عمره حينها . كان كلما تريد زوجته الذهاب لهذا المكان المقدس يوصلها إلى إحد أبوابه ويقف مع ابنته خارجه بانتظارها. قالت له مرة :- حبيبي، لمَ هذا العداء لمقدساتنا!؟ كان يرد عليها :- لا يا زوجتي ليس عداء للمقدس لكن الثقافة السلوكية للطقوس والعبادة والشعائر تتضمن نظاماً من المعايير الأخلاقية والكهنوتية المقيتة وتلك المعاير أرفضها .. وان معظم الاديان تنظم تلك السلوكيات ، بعضها تركز على الاعتقاد في حين يؤكد آخرون على أنشطة المجتمع الدينية .. اجابته بأسى :- نعم انها الطاعة والانقياد .. لهذا تحول رجال الدين لمزحة بفم الناس فالتغيير قادم لا محالة كما اصبح ذلك الدكتاتور قبلهم . :- حقا حبيبتي حين يحول الناس أوجاعهم إلى مزاح، وبعد أن تزال تلك القدسية عن رجال الدين الذين باعوا دين الله بأثمان بخسة لترويج تجارتهم باسم الله سيكون مصيرهم كمصير ذلك الدكتاتور. طلبت منه ابنته الصغرى بعد توسلاتها أن تدخل معه إلى هذا الضريح المقدس رفض في البداية لكنه استجمع كل قوى الكون ووضع ذلك الخوف عند أبواب الضريح ودخل مع ابنته وهو يشرح لها قدسية الإمام وعظمته التاريخية، وأسباب قتله في غيابات السجن، ويروي لها تأريخاً مذلاً لأمة آثرت الصمت بخنوع وقتل افضل رجالاتها وأئمتها وهم يهللون للحاكم أو يطمرون رؤوسهم في الوحل .. نظرت ابنته لرجل الأشرطة الخضر وهو يدور في الأروقة وقفت امامه مشيرة بأناملها الرقيقة الى رأسه وتضحك :- بابا .. بابا انظر إليه إنَّه يشبه قلم الرصاص الذي في رأسه ممحاة .. !! نظر والدها إليها وشعر أن الخوف وظله الطويل لم يستطع أن يلتهم ابنته كما كان هو ضحية له في يومٍ ما .
منى الصراف / العراق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق