الأربعاء، 7 يونيو 2017

وردة على الرصيف بقلم نجلاء عطية بلحاج


وردة على الرصيف
أبطال حكايتي حقيقيون لم ألتقيهم ،ربما ،لم أعرفهم ،ربما ،ليس لهم عنوان محدد ،ربما ولا زمان  مثبت بالسنة والشهر واليوم ولكن هم بالتأكيد يجسدون واقعا ، ليسوا أشخاصا معينين ولكن لا أحد يقدر أن ينفي وجودهم فهم واقع بحكم الظرف ،بحكم الأزمة لأنهم نتيجة طبيعية للحروب متى اندلعت ، هم من يتحملون أعباء المأساة التي تعيشها أوطانهم ، يولدون وسط السعير ،يخرجون من بين الهشيم ،يتشتتون ، يتوهون وسط الطريق ومعظمهم ورود سلبتهم الحرب لونهم الجوري واستبدلت عطرهم الفواح برائحة الدم المقيت وكسرت أغصانهم الرقيقة ومزقت أوراقهم بكل عنف وحتى أشواكهم الجميلة صارت وخزات تدمى لها أقدام المارة ،حين تدوسهم في غفلة من القدر
كانت السيدة فهيمة ،امرأة جميلة تلمع لسحرها العيون وتبتسم لها الشفاه متى التقتها  ويخفق لها القلب كلما تكلمت ...سيدة يحبها الجميع أهلا وجيرانا وأصدقاء..لها زوج وثلاث بنات يعيشون مع بعض حياة هنيئة ملؤها السعادة والإطمئنان . ولكن شاءت الأقدار أن تغير ت الأحوال بل انقلبت ،فقد اندلعت الحرب وعلت أصوات الصواريخ والدخان الأسود شوه صفاء السماء وتاه الهدوء المعمر للمكان وضاعت الآمال ،ماتت على أعتاب الواقع المكلوم ...وأصبحت فهيمة لا تفقه من تفاصيل حياتها التي طالما أحبتها شيئا فقد ذهب زوجها كبقية الرجال واستقروا بالجبال ليحملوا السلاح دفاعا عن حرمة الوطن وبقيت هي وبناتها يعشن غربة لا مثيل لها ...وجع الفراق ،حزن سببه هرسلة يومية تنطلق مع الفجر ولا تعرف نهاية إلا بساعات متأخرة من الليل ..ساءت نفسية فهيمة وهي ترى بناتها يتيمات من كل شيء ،بلا حنان أب ولا دفء بيت ولا حتى تعلم كباقي البنات بالعالم فالمدارس ببلدها تقصف بلا خجل والمعاهد تهدم بلا ورع والجامعات مستباحة فلا حرمة باقية لشيء ...بقيت الأحوال تسير من سيء لأسوأ حتى قصفت صواريخ الهاون الحي السكني الذي تقيم به فهيمة ومن الطاف الله أنها لم تكن بالداخل فقد تهدم بالكامل وصار حطاما وكأنه لم يكن..بكت فهيمة بحرقة ليس على البيت فحسب بل على ما الم بعائلتها ،بأهلها ،بوطنها فلم تعد ترى شيئا جميلا كما كان عليه من قبل فمنذ متى للحرب وجه جميل؟ منذ متى تترك أثرا طيبا فقد مسخت معالم البلاد تماما كما تفاصيل الحياة.. وأجبرت المسكينة على أن تأخذ بناتها وتمشي بأرض الله الواسعة وأفقها سراب بلا أمل في النجاة إلا رحمة ولطف من رب العالمين ووجدت نفسها تستقر بمخيم على الحدود التركية ولا يمكن لأحد أن يفهم وقع ذلك التشرد على المرأة إلا من عاش نفس المأساة فهناك شربت فهيمة مرارة الغربة الوانا ، شعرت بأنها أشلاء مشاعر ،أشلاء إحاسيس وعقل ،أشلاء جسد.، أهي مازالت تلك المرأة؟ كيف تكون وقد سلبت كرامتها ...صارت تتنفس ولكن الحياة قد وئدت داخلها ،أضحت تبتسم بوجه بناتها لكن بسمتها المشرقة قد اغتيلت ،كانت تطبخ لتطعم فلذات كبدها ولكنها ممزقة إذ تشعر أنها تطعمهم من لحمها وتسقيهم من دمها ...كانت بائسة جدا إذ صارت لا تشبه نفسها في أي شيء. حتى دموعها لم تعد تعني الألم ولا الأنين يعني التعب ولا الوحدة ،الكدر ،لم تعد تتوقف عند التفاصيل اليومية فلا توجد للحياة أي نكهة وكم تتساءل عن تغيرها بتلك الدرجة وتبتسم بحرقة ويأس فكيف لها أن تنزعج مثلا من ضنك العيش وهي تموت كل يوم عشرات المرات كلما تذكرت زوجها وهو يدللها وبناتها ويلبي رغباتها بسخاء ؟ كانت تنظر حولها فترى جارتها بالمخيم امرأة أعمال فقدت كل ممتلكاتها وصارت تلتحف العراء وأخرى أستاذة جامعية فقدت طلبتها وعملها المقدس وأخرى محامية فما قيمة الدافع عن الحق على أرض غزاها الظلم وأقيمت المشانق للقانون و الدستور والضمير ومن الجانب الآخر ترى يتيما رضيعا فقد والديه وهو لم يشبع حتى من لبن أمه ولم تسجل ذاكرته صورة لأبيه رضيع ستكفله العناية الإلهية فلا شيء بدونها لهذا المسكين يمكنه أن يستقيم... ...ترى تلك الصور المروعة وصوت بأعماقها يسأل : ما ذنبنا؟ ما جريمتنا حتى نشرد ،حتى نتوه وتنظر لوجه ابنتها واسمها ورد ، وتبكى بدل الدمع دما ،كيف لا وهي ترى ابنتها تمشي حافية الأقدام على الرصيف فيعلق بذاكرتها اللون الحالك للأحزان...تحضن ابنتها فتشم عطرا لوثه القهر والظلم والبهتان
 تبقى تتساءل حتى يأخذها النعاس ومن حسن حظها مازالت تحلم ،حلمها بسيط رائع كبقية ضعفاء هذه الأرض إذ كانت ترى ورد يوم العيد بثياب بيضاء ناصعة قادمة مهللة والفرحة على شفتيها ترتسم وتطير لتستقر بأذن أمها كصلاة فجر ، ابتهالات سمعها خالق السماوات والأرض ،فلباها فهو الرؤوف الرحيم وقالت: هاقد عاد أبي من جديد وامتزجت الأصوات وصارت ترنيمة يعشقها كل المشردين: : عائدون لك يا وطنا ولو بعد حين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق