الخميس، 20 فبراير 2020

بقلمي .م. فاتنة فارس. الخبزِ اليابسُ

الخبزِ اليابسُ 

في قريةٍ منفيةٍ خلفَ رُكن الضَّبابِ حيثُ الزَّمنُ المنسيُّ 
و رغيفُ الخبزِ اليابسُ و جدارُ الطِّينِ المُتهاويْ و حبَّاتُ المطرِ الَّتيْ
تُعاندُ الرِّيحَ و تهجرُ الغيمةَ لتحضنَ أترابَها و تتناثرَ ندفاتٍ كالرِّيشِ 
على أبخرةِ المداخنِ و تلحدَ القرميدَ القرمزيَّ 
أوجهٌ مزرقةٌ و أجسادٌ تلتحف الصَّمتَ و أناملُ ترتجفُ من الزَّمهريرِ
و أنفاسٌ تلهثُ بحثاً عن شعلةِ دفءٍ خلفَ أبوابٍ أكلَها الصَّدى و جمَّدَ أوصالَها  الزائرُ الأبيضُ 
وبلَّلَ مزلاجَها عرقُ الفقيرِ المتصبِّبُ من ألمِ العوزِ
يتهاوى خلفَ درهمِ قوتٍ أو قارورةِ وقودٍ تقيه بردَ الفاقةِ و صوان القلوبِ المتحجرةِ قبلَ أن تتخشَّبَ أوصالُهُ  و تخبوَ أنفاسُهُ..
عيونٌ مغرورقةٌ ترويْ أبلغ عباراتٍ و أصدقَ معاناةٍ و صوتٍ متهدجٍ و هو
يلهجُ  (الرِّزقُ منْ عندِ اللهِ )...
يلمُّ أطرافَ ثوبِهِ الرثِّ البالي الَّذي لا يجمعُ و لا يرقعُ على جسدٍ نحيلٍ اضناهُ قِصَرُ اليدِ و ضيقُ الحالِ.. 
يسيرُ مثقلاً بهمومِهِ متكئاً على عُكازِ الأملِ الهشِّ.. الحصاةُ و الجليدُ  تجرحانِ قدميهِ العاريتينِ إلَّا من بقايا حذاءٍ منّ به عليه أحدُ ميسوري الحالِ في القريةِ منذُ دهرٍ سحيقٍ 
واستمر يتخبط وتثلَّمَ رأسُهُ وأكتافُهُ   بحبَّاتِ البَرد و هو ينحدرُ على طريقٍ متعرجةٍ ضيقةٍ يحذرُ زلَّةَ قدمٍ في هوَّةِ الوادي السَّحيقِ
وتتفتَّقُ رئتاهُ و يحمرُّ خدَّاه من صفعاتِ البردِ .. و الرِّيحُ العاتيةُ تجلدُ أضلاعَهُ و تقرحُ جلدَهُ  لكنَّهُ صامدٌ يكابدُ و
يصارعُ عكسَ التَّيَّارِ و يتأمَّلُ أشجارَ الصَّنوبرِ المتراميةَ أمامَهُ  الَّتي كلَّلَها طهرُ الثلجِ الناصعِ و غصنُ السنديانةِ الذي عرَّتْهُ الريحُ و قصفَتْهُ العاصفةُ.. 
يحاولُ التقاطَ بعضِ ما جادَتْ به شجرةُ الخروبِ (الخرنوبِ )
علَّها تدرُّ عليه قليلاً من الدِّبسِ يُسكتُ به أفواهَ فلذةِ كبدِهِ المتضورةِ جوعاً
و يتبعُ ذاكرةَ الشمِّ الشحيحةَ أمامَ هولِ لفحاتِ البردِ القرِّ   
ويحنيْ ظهرَهُ المقوَّسَ لالتقاطِ حباتِ البلوطِ المتراميةِ هنا و هناك
و في البعيدِ شلال تجمّد أخفاه الضبابُ عنِ النَّواظرِ..
و نبعُ ذكرى يزعقُ اختلطَ بنحيبٍ مدوٍّ  من معدةٍ خاويةٍ إلا من الماءِ و كسرةٍ من رغيفٍ لم تقْوَ أسنانُهُ على قضمهِ..
و انحدرَ إلى مغربِهِ بعدَ أن خارَتْ قواهُ يستندُ إلى شجرةِ السَّروِ
يلتقطُ أنفاسَهُ الهاربةَ..  يستمدُّ ثباته من جذورِها فهي موطنُهُ وملاذُهُ الأخيرُ و مسرحُ ذكرياتِهِ الضائعةِ في متاهاتِ الغدِ المجهولِ.
بقلمي .م. فاتنة فارس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق