الأحد، 26 يوليو 2020

رعد الإمارة ... قصة ... الوقحة...

قصة  ( الوقحة )

أرسل الشتاء القادم بقوّة برسائله التي كانت تَنذرُ ببردٍ قارص ، وكان جسدي النحيف والشبيه بعود الخيزران، قد أصبح صيداً سهلاً لموجات البرد، التي هَبطتْ على العاصمة بغداد في وقتٍ مبكّر من الصباح، أخفيتُ اصابعي العشر في جيبَي بنطالي الخلفي ، كان عليّ قطعُ عشرات الأمتار، حتى أصل إلى مبنى الكليّة المشبع بأنفاس الصباح الدافئة . كنتُ أمشي بخطوات أبن الجنوب السريعة، مع مرور الوقت، وأنا أتحاشى قدر الإمكان الارتطام بالمارّة العابرين، شَعرتُ بأن  أنفي في طريقه للتجمّدْ ،أما أذناي فكان الاحساس بوجودهما صعباً . تَوقفتُ عند أحد المطاعم الصغيرة، اصطَدمتْ عيناي بالساعة الجدارية الكبيرة المثبّتة خلف البائع، اوه، مازالَ الوقتُ مبكّراً،هكذا همستُ لنفسي،تَفحصني صاحب المطعم البدين ذو الوجه الضاحك بنظرة سريعة، مدَّ عنقه الغليظ وراح يعدّد وهو يَفركُ يديه مع بعضهما،  حساء، بيض، وحليب أيضاً ، ترددّتُ قليلاً،ضَيقتُ مابين حاجبي، لكني سرعان ما اخرجتُ اصابعي، فركهتما بقوّة ونفختُ فيهما، أشرتُ بسبابتي نحو القدر الكبير ببخاره المتصاعد صوب السقف، قلت :
-حساء، وبيضة واحدة. وضعَ الطبق  الساخن أمامي،ثم دفع بآخر ملأه بالمخلّلات ، تَذوقتُ من الحساء بطرف الملعقة ، مَصمصتُ شفاهي ،هَمستُ في اعماقي، طيّبْ هذا الحساء، لحظات شاع بعدها الدفء،   جَذبتني رائحة البيض المقلي المتبّلْ ، يبدو منظره شهياً، أضفت قليلاً من الملح والفلفل،ثم ختمتُ آخر لقمة خبز بزيت البيضة قبل أن اتجشأ، طلبتُ كوباً من الشاي وأنا أحدّق لعقربي الساعة، وضعتُ الثمن أمام البائع المبتسم ثم قَطعتُ ماتبقى من خطوات نحو الكلية.  أخذتُ أرتقي درجات السلّم قفزاً، كنتُ الهث حتى كدتُ اصطدم بها! رفعتُ رأسي، يارب السماء،ماهذه العيون!؟ تسمرّتُ في مكاني ، رَفعتْ حاجبيها وأخذتْ تتأملني بأوسع عينين سوداوين! كانتْ ترمقني بثبات وبنظراتٍ خالية من الأرتباك أو الحياء، وجدتُ وجهي يحمّر ويصفّر مثل إشارة المرور! لا أعرف كيف تَنحيتُ عن طريقها، كل ماأعرفه  أنني حين التفتُّ للخلف قبل أن أستدير لقاعة الدرس ،وجدتها تلاحقني  بنظراتها الكبيرة الوقحة وقد ارتسمَ ظلُّ ابتسامة في زاوية فمها. جَلستُ في مقعدي ، كنتُ الهث وقلبي يدقُّ بقوة ، التفَّ حولي إثنان من رفاقي ، كانا من الجنوب مثلي ! سألني أحدهما:
-وجهك مخطوف،أين كتبك، دفتر ملاحظاتك؟ . سحقاً، رحتُ أحدّق فيه، لقد انساني البرد اصطحاب أيُّ شيء مما ذكر، يالحماقتي! هكذا رددّتُ مع نفسي 
_لا عليك، هتفَ بي زميلي الثاني، أخذ يبحثُ في أغراضه، سرعان مادسَّ في يدي قلماً وبضعة أوراق بيضاء لكتابة الملاحظات. أغلقَ الأستاذ الشاب باب القاعة، فركَ يديه الأثنتين مع بعضهما ثم بدأ بشرح المحاضرة. توقفتُ ورفيقَي   بعد انتهاء الدرس، في الممر الطويل الذي يشرف على قاعات المحاضرات، كان المكان دافئاً مما أتاح لزميلَي الفرصة للثرثرة والضحك بصوتٍ عالٍ، جلباً لأثارة انتباه البنات!قادتني خطواتي للابتعاد عنهما شيئاً فشيئاً، لم يرق لي عبثهم الأخرق هذا، أخذتُ أمشي في الممر الطويل دونما هدف، كنتُ أشيح ببصري بعيداً كلما التقتْ عيناي عفواً بنظرات إحدى البنات! تباً للخجل، هكذا كنت اهمس مع نفسي، ماهذا؟ ليست صدفة حتماً، كانت هي، بشعرها الأسود المجعّدْ وعينيها الآسرتين، ثمة جاذبية عجيبة في عينيها، كانت تقف وسط بنتين بجوار باب قاعة الدرس، راحتْ ترمقني بإصرار من بين كتفي البنتين ، احمرَّ وجهي سريعاً، أخذ قلبي يخفق بسرعة، وارتبكتْ خطواتي، لم أعد أقوى على العودة ولا على إكمال طريقي! وجدتها تبتسم وتهمس بشيء للبنات، تَصاعدتْ ضحكاتهن، ازاحتهن بيديها وبخطوتين وَقفتْ إلى جانبي، قالتْ بصوتٍ قوي :
-مرحبا، صباح الخير. ارتبكتُ، لم يكن صوتي واضحاً حين رَددتُ عليها ،  مجرد همهمة ! قالتْ وهي تتنهّدْ:
-أنتَ بالمرحلة الأولى؟ لم اشاهدك من قبل؟ تبدو خجولاً جداً. اومأتُ برأسي، لفحَ عطرها أنفاسي ، واصلتْ كلامها :
-اسمي شذى، مرحلة ثانية، هل تريد أن نصبح أصدقاء!؟. رحتُ اهزُّ رأسي  بصورة آلية، ضَحكتْ وقالتْ :
-حتماً لن تخبرني بأسمك، لكني سأعرفه بطريقتي الخاصة ، خجلكْ لذيذ، أنه يروق لي. استدارتْ منصرفة، كان كل موضع في جسدي ينبض الآن، مَشتْ بعيداً هي والبنتين، رنَّ الجرس، نقلتُ خطواتي بأعجوبة، خيل لي بأن كل النظرات انصبّتْ علي. ظلَْ ذهني مشغولاً بشذى، أما الدرس وشرح الأستاذ فلم افقه منه شيئا، كنت اكتفي فقط بهزُّ رأسي كلما التقتْ عيناي النرجسيتان بعيني الاستاذ المحاضر !!. (يتبع )

بقلم /رعد الإمارة /العراق /بغداد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق