الدَّليل
.
إعتدلَ في جَلسَتِهِ ثم سَحَبَ مُكبِرَ الصوتِ إليه. إنحناءتهُ تُذَكرهُ بإنحناءةِ صنبورِ المياه وهو يَقطرُ على مَهلٍ، تَذَكّرَ مَنظرهُ في المرآة التي تعلو الصنبور والشمس المتألقة وراءهُ خلف أشجار الحديقة . شعرَ برضًا وهو يتذكر هيبةَ شَكلهُ ووقاره..شعرهُ الأشيب ،نظارتَهُ الطبيةَ الصغيرة وربطةَ العنقِ المربوطةَ بعنايةٍ. هَمهَمَ في نفسهِ مُتذكراً ( سيكون الصنبور هو الدليل) . نظَرَ الى جمهورِهِ المتواضع : رجالٌ مُختلفو الأعمار في الصف الأول والثاني من القاعة والنساء في الصف الخامس منها ويكاد يخلو الصفّ الثالث والرابع إلا من عاملة النظافة العجوز التي وزّعَتْ العصيرَ على الحضور .
بعدَ السلامِ شَرَعَ بالكلام بهدوءٍ وتروّي : ( هذا التغابي في تهميشِ دورِ المرأةِ ، أضفى لمجتمعِنا طابعاً بَدوياً مُتأخراً عن الدول المُتحضرة، فإذا ما نظرنا الى سُلّم التطوّر وجدنا إنّ الله قد خلقَ كل الكائنات ثم انتهى بالأنسان وهو آدم ثم خلق حواء..وهذهِ نقطة تتقدم فيها حواء.....) مَدَّ يَدّه للسَمّاعةِ مرةً أُخرى حرّكها ثم ضبطَ إنحنائتها ، تَذكّر الصنبورَ وهو يقطر وردد في نفسه مُطمئن لها: ( الصنبور هو الدليل) . ثم إستطردَ في كلامهِ : ( نعم... فحوّاء هي قمة الهرم في سُلّم الخَلق الإلهي ......) قاطعهُ أحدُ الشبان وقال : ( أُستاذ ، لقد خُلقت حواء من ضلع آدم وهذا يجعلها جزءاً منه وليس تقدما عليه في شيء . )
نَظر مرة أخرى للسماعة بهدوء ( إعطني.. إعطني دليلاً يابني على إن حواء خُلقت من ضلع آدم)
أجاب الشاب : ( كل الكتب تَذكر هذا )
فردَّ عليه بحزم : ( لم يذكر القرآن هذا ، إجلس حتى تأتي بدليل منطقي على كلامك ...)
_ نحن نحاول أن نجعل لشيء أهمية دون دليل .
_ اجلسْ ياولدي .. اجلسْ .
ألحَّ الشابُ مما أثار غيضا في صدره ، ( أريدُ دليلاً)
تذكرَ صوت الصنبور وهو يقطرُ .. أقلقته ذاكرته ، انفجَرَ في وجهِ الشاب وصاحَ في وَسطَ القاعة ( الصنبور هو الدليل) . لَملَمَ اوراقهُ وذهبَ مُسرعاً الى البيت .. دَخلَ فناء البيت وتقرَّبَ من صنبور المياة .. وجدَهُ مغلقاً تماما .. هذا دليل خروجها للجامعة .. نزعَ حِزام بنطاله وقبضَ عليه من طرفيه .. دَخل البيت وزأرَ : ( أين هي هالة؟؟ كيف خرجت ؟ ) . أعترضته أم هالة بتوسل ( هوّن عليكَ يارجل .. لم تذهب للجامعة لا بل لم تخرج من غرفتها )
_ إذن من أوصد الصنبور؟؟
_ أنا .. أنا لقد لاحظته من شباك المطبخ ..
هَدَأَ روعَهُ وجَلَسَ على الكرسي ، أرخى ربطةَ عنقهِ...ثم شَرَعَ يلقي كلماته بنفس طريقته وهو يلقي محاضراته الهادئة: ( نعم .. تُمنع من الخروج حتى من غرفتها لحين اقتناعها بالزواج من ظافر رغم انفها ..)
انتهت.
ملاذ علي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق