السبت، 25 يناير 2020

التصوير في الشعر العربي القديم :

التصوير في الشعر العربي القديم :
ما الذي يميز شاعر عن شاعر آخر , هل هو اجادة النظم على بحور الشعر وكفى أم هناك عوامل أخرى تجعل هذا الشاعر يشار اليه بالبنان ويتصدر بنتاجه المشهد الشعرى , وقد رأينا أمثلة عبر تاريخ لغتنا الجميلة فكان أبو تمام والبحتري المتنبي وأبو العلاء المعري ,ومن المحدثين أحمد شوقي وبدر شاكر السياب والرصافي والجواهري ونزار وأخرون لا يتسع المقال لذكرهم .

اذا ذكرنا عمق الفكرة وبراعة الصورة والموسيقي الداخلية , والبديع واختيار البحر والقافية المناسبة , نقول أن تقنيات حديثة مثل التصوير السينمائي اضافت بعداً عظيما للقصيدة العربية , ومعا مع البحث التالي في التصوير في الشعر العربي القديم , وسوف نتبعه باذن الله بعرض هذه التقنية في شعرنا الحديث .

مقدمة : رأيت لأمانة العرض أن أقدم لكاتب هذا المقال وكم أحزنني أن تنتهي حياته عن عمر يناهز الثلاثين عاما , إنه الشاعر والمؤرخ الأدبي الشاب فخري أبوالسعود ( 1910-1940):
• تخرج من مدرسة المعلمين العليا وإبتعث لتفوقه الي جامعة اكستر بانجلترا

• احتفل في شعره بالطبيعة والوطنية والوجدان , وعنى بكل لفظ جزل وبالروي الناعم وارتفع الى مصاف كبار الأدباء علي الرغم من حداثة سنه .
• فاز بجائزتين بكتابيه ( الخلافة ) و(البارودي) .
• برع في دراسته عن الأدب المقارن وهو الذي تملك ناصية العربية والانجليزية .
• صدر له ديوان بعنوان ( ديوان فخري أبو السعود) جمع وتقديم وتحقيق د. علي شلش – اصدار الهيئة العربية العامة للكتاب 1985

"الوصف من أهم أغراض الشِّعر وأخصِّ فُنونِهِ، وكُلَّما كَثُرَ في شِعر لغةٍ وآثارِ شاعرٍ، دَلَّ على رُقِيِّهِما الفنيِّ؛ إذ إنَّ مناظر الطبيعة خاصَّة، وروائعَ المشاهدات عامَّة من أشد العوامل تأثيرًا في النفس الشاعرة وتحريكًا لعاطفتها، وبَعْثًا لها إلى القول، والوصف في الشعر العربي غزير يتناول شتَّى الموضوعات، ويبلغ في يد كبار شُعراء العربيَّة غاية الإجادة، فكثيرًا ما تخلَّص شعراؤنا من قيود المدح والرثاء، والنسيب الاستهلاليِّ - مهما كان تَقَيُّدُهم بهذه الأغلال الثقيلة التي كَبَّلَتِ الشِّعرَ العربيَّ - وعَرَجُوا على وصف أثر من آثار الطبيعة أو المدنية، فأبدعوا وأرضَوُا الفنَّ أضعافَ ما أرضَوْهُ بمبالغات المدح والرثاء، والنسيب المُدَّعَى.

ولكنَّ الذي أريد الإشارة إليه في هذه الكلمة، أن اعتماد الوصف في الشعر العربي كان دائمًا على المعنى دون اللفظ، على التشبيه والاستعارة والمجاز دون جَرْسِ الألفاظ، وتتابُع التراكيب ووَقْعِ الأوزان والقوافي، بينما الشعر الوصفيُّ الغربي اعتمد على هذه الأشياء الأخيرة اعتمادًا كبيرًا، فبلغ الغاية في المطابقة بين المعنى واللفظ مطابقةً تملأ الوصف حياة وجلاء، وتوفَّرَ بعضُ الشعراء على هذا الضرب منَ التَّصوير، ومنهم ملتون وتنيسون، ولا سيما الثاني الذي بلغ في القدرة على تذليل اللفظ للمعنى، واستخدامه في تصوير ما يشاء حدًّا منقطع النظير، وأضحتْ آثار أولئك الشعراء مهبط وحيٍ لكبار المصورين، يستلهمون ما حوت من روائعِ الأوصاف، ومحكَمات الصُّوَر، ويسجِّلون ذلك على لَوْحاتهم.

إذا كان في المنظر المراد تصويرُهُ حركةٌ؛ كجَرَيانِ نهر، أو عَدْوِ جَوَادٍ استخدم الشاعر الغربي بحرًا من بحور الشِّعر يلائم تلك الحركة ويحكيها، وإذا كان به صوت أو أصوات مختلطة؛ كهدير أمواج البحر، أو قصف المدافع في الحرب، اختار منَ الألفاظ تلك التي تحتوي على حروفٍ خَشِنَةٍ قَوِيَّة، وإذا كان يصف منظرًا ساكنًا وادعًا لم يذكر ذلك في القصيدة ذِكْرًا، وإنَّما استَعْمَل الألفاظ ذات الحروف اللَّيِّنَة؛ كالسِّين مثلاً، وهناك عدا هذا وذاك ضروب شتَّى منَ المُلاءمة بين الصيغة والمعنى، يَفْتَنُّ فيها الشاعر الوَصَّاف ما شاء له اقتدارُهُ؛ ككثرة العطف، وتكرار الحروف، والكلمات والتراكيب، والأبيات الكاملة.

ولقد وقع شيء من ذلك في بعض أشعار الوصف العربيِّ؛ ولكنه كان إلهامًا محضًا أوِ اتفاقًا عارضًا، ساقت الشاعرَ إليه المصادفَةُ السعيدة أوِ السَّلِيقَةُ المجيدة، دون أن يتعمَّدَهُ أو يتكلَّفَ في صَوْغِهِ عَنَاءً، ويقرؤه القارئ العربي فيستطيبه ويعزو موقِعَهُ من نفسه إلى مجرد معانيه، وحُسْنِ تشبيهاته، ويَجْمُل ذكرُ شيء من هذا للتمثيل والبيان:
ففي مُعَلَّقَتِهِ يصف امرؤُ القَيْس اللَّيلَ في بيته المشهور:
فَقُلْتُ لَهُ لَمَّا تَمَطَّى بِصُلْبِهِ وَأَرْدَفَ أَعْجَازًا وَنَاءَ بِكَلْكَلِ

وفضلاً عن جَوْدة المعنى، وحُسن التشبيه في هذا البيت، يزيد الوزنُ والتركيبُ الوَصْفَ المرادَ ظهورًا؛ فالبحر الطويل ذو الحركة الوَئِيدَة، وتكرارُ العطف بالواو يمثلان بُطْءَ مَسِيرِ الليل، ولَجَاجَهُ في الإقامة، وتمادِيَهُ في الطُّول خيرَ تمثيل، وفي بيته الآخَرِ حيث يصف جواده بقوله:
مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ مَعًا كَجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ
نرى تتابُعَ الصفات بلا فاصل في الشطر الأول، واستعمالَ الألفاظ الضخمة الخَشِنَة في الشطر الثاني يمَثِّلان تَوَثُّب الجواد، وسرعةَ انطلاقه وارتداده، ومفاجآتِ حركاته تمثيلاً جيِّدًا بصرف النظر عن تشبيهه بانحطاط الصخر من شاهق.
وفي قول المتنَبِّي:
أَتَوْكَ يَجُرُّونَ الحَدِيدَ كَأَنَّمَا سَرَوْا بِجِيَادٍ مَا لَهُنَّ قَوَائِمُ
خَمِيسٌ بِشَرْقِ الأَرْضِ وَالغَرْبِ زَحْفُهُ وَفِي أُذُنِ الجَوْزَاءِ مِنْهُ زَمَازِمُ
نرى وصفًا رائعًا لجيش كثيف وَئِيدِ الزحف لكثافته، وليس في البيتين معنى كبير، وليس فيهما سوى مبالغة غير معقولة؛ ولكنه البحر الطويل يمثل هذه الحركة البطيئة أتمَّ تمثيل، هذا فضلاً عن فخامة الألفاظ التي تَخَيَّرَها الشاعر، ونرى البحر الطويل يؤدي مثل هذا الغرض، ويرسُمُ صورةً أخرى رائعة في قول جَمِيلٍ:
وَلَمَّا قَضَيْنَا مِنْ مِنًى كُلَّ حَاجَةٍ وَمَسَّحَ بِالأَرْكَانِ مَنْ هُوَ مَاسِحُ
أَخَذْنَا بِأَطْرَافِ الأَحَادِيثِ بَيْنَنَا وَسَالَتْ بِأَعْنَاقِ المَطِيِّ الأَبَاطِحُ
فهنا حركة الإبل البطيئة واضحة ماثلة، وقد كان جميلٌ ملهمًا، حيث ذَكَرَ كلمة أعناق في البيت الثاني، فإنها وَحْدَهَا تَرْسُمُ الصورة التي أراد؛ فإنَّ ذكر الجزء الأهمِّ منَ الصورة كثيرًا ما يبعث إلى المُخَيِّلَة باقيَ الأجزاء، ويُبْرِزُ الصورة جَلِيَّةً كاملة، ويترك البحرُ الطويل مِثْلَ هذا الأثر أيضًا في قول البارُودِيِّ الذي أشار إليه الدكتور صبري في كتابه عن الشاعر:
وَنَبَّهَنَا وَقْعُ النَّدَى فِي خَمِيلَةٍ

فإذا قُرِئ هذا الشطر بِتَأَنٍّ وجدنا الوزن يُمثِّل تساقُط قطرات الندى متتابعةً، أما الحركة السريعة فيمثلها البحر الكامل، ومن ذلك قول المتنَبِّي:
أَقْبَلْتَ تَبْسِمُ وَالجِيَادُ عَوَابِسٌ يَخْبَبْنَ بِالحَلَقِ المُضَاعَفِ وَالقَنَا
عَقَدَتْ سَنابِكُهَا عَلَيْهَا عِثْيَرًا لَوْ تَبْتَغِي عَنَقًا عَلَيْهِ لأَمْكَنَا
ففي البيت الثاني نرى مبالغةً أخرى من مبالغات المتنَبِّي، وهي وحدها لا تكاد تؤدي معنى، ولكن البحر الذي صِيغَتْ فيه القصيدة يؤدي خَبَبَ[1] الجياد خيرَ أداء، حتى لَيكادُ يريك تَوَثُّبَ الفرسان فوق ظهورها، ولو حاول الشاعر وصف الخَبَبِ في البحر الطويل لما استقامت صورته.

ولِتكرار الألفاظ أو التعبيرات أحيانًا أثرٌ بليغٌ في إبراز الصُّوَرِ، وبَعْثِ الأَخْيِلَةِ؛ ففي قول ابن هانئٍ الأندلسيِّ:
وَفَوَارِسٌ لاَ الهَضْبُ يَوْمَ مَغَارِهَا هَضْبٌ وَلاَ الوَعْرُ الحَزُونُ حَزُونُ
يوحي تكرارُ كَلِمَتَيْ هضب[2]، وحزون[3] إلى المُخَيِّلَة تتابُعَ الهضاب والرُّبَى أثناء عَدْوِ الفرس، فكأنَّه يعرض أمام العين شريطًا سينمائيًّا متحرِّكًا، أَضِفْ إلى ذلك صَوْغَ البيت في البحر الكامل، واختيار الكلمات الفخمة، وفي قول الأستاذ المازنيِّ:
لَغَطُ اليَمِّ إِذَا اليَمُّ طَمَا وَالْتَقَتْ فِيهِ هِضَابٌ بِهِضَابْ
ترى صورة رائعة لجَيَشانِ اليَمِّ، ولا يرجع هذا إلى معنى البيت وحده، ولكن إلى وزنه وألفاظه كذلك؛ فبحر الرَّمَلِ يُمَثِّلُ الحركة المتضاربة أَدَقَّ تمثيل، وتكرارُ كلمتي اليَمِّ وهِضَاب يوحي إلى المُخَيِّلَة تتابُع اللَّجَجِ، وتكرارُ حرف الهاء ثلاث مرات في الشطر الثاني يَزيد الحركة تصويرًا وبروزًا.

كان ذلك في الغالب كما ذكرتُ محضَ اتفاق أو إلهام، ولم يقم في العربية فردٌ أو مدرسة تتوفَّرُ على هذا الضرب منَ النظم والتصوير؛ وإنَّما حين اتَّجه نظر الشعراء إلى اللفظ صادَفَ ذلك عصرَ انحلال الأدب؛ فلم يُسَخِّروا اللفظ لإبراز المعنى؛ بل صرفوا كلَّ همهم إلى اللفظ دون المعنى، ووُلِعُوا بالألاعيب اللفظيَّة التي سمَّوْهَا محسناتٍ، وأَوْغَلُوا هذه الغُثاثاتِ على أَجَلِّ فنون الشِّعر خَطَرًا؛ كالرثاء والنَّسِيبِ، فأَسِفَتْ وانعدم فيها الحِسُّ والشعور، فرأينا شاعرًا ينسب فيقول:
نَاظِرَاهُ فِيمَا جَنَى نَاظِرَاهُ أَوْ دَعَانِي أَمُتْ بِمَا أَوْدَعَانِي
وآخَر يتوجَّع فيقول:
لِي مُهْجَةٌ فِي النَّازِعَاتِ وَعَبْرَةٌ فِي المُرْسَلاَتِ وَفِكْرَةٌ فِي هَلْ أَتَى
وثالث يمدح فيقول:
وَإِنْ أَقَرَّ عَلَى رَقٍّ أَنَامِلَهُ أَقَرَّ بِالرِّقِّ كُتَّابُ الأَنَامِ لَهُ
وليس في كلِّ هذا تعبيرٌ عن شعور أو أداءُ غَرَضٍ، وما هو إلا عَبَثٌ بالألفاظ، واقتناصٌ للجناس والطِّباق والسَّجْعِ والتورية، وإنما أكثَرْتُ من هذه الأمثلة الغَثَّةِ؛ لأُوَضِّحَ كمْ كان الشِّعر العربي يربح لو أنَّ المجهوداتِ التِي صُرِفَتْ في مثل هذا التحايُل العقيمِ وُجِّهَتْ إلى تسخير اللفظ لِلمعنَى، والاستعانة بِهما معًا على إبراز الوصف المقصود؛ كما يصنع شعراء الغرب.

وليس في طبيعة اللغة العربية قُصورٌ يَحول بينها وبين مُجَارَاةِ اللغاتِ الأُخرى في هذا الباب، بل لها من الميزات ما يقدِّمها على غيرها، فهي كثيرة البُحور التي يؤدِّي كلُّ منها غَرَضًا مختلِفًا، غزيرةُ الألفاظ الوَعْرَة الضخمة، والرقيقة اللَّطيفة التي توحي بخُشُونَتِها أو رِقَّتِها مختلِفِ الصفات، غَنِيَّةٌ بالحروف السَّلسة اللَّيِّنَة، والحروف الخَشِنَة الجافية التي تطاوِع الناظمَ القدير، ليس يُعْوِزُ العربيةَ شيءٌ من ذلك؛ وإنما يُعْوِزها الجرأةُ منَ الناظِمِينَ بها، والعَزْمُ والجَلَدُ."

[1] خبب الجياد: هو عدوها السريع، وفي "المعجم الوسيط": خب الفرس أي نقل أيامنه وأياسره جميعًا في العدو.
[2] هضب: جمع هضبة.
[3] حزون: جمع حَزْن (بفتح فسكون)، وهو ما غلظ من الأرض.

المصدر: مجلة الرسالة العدد (44) لسنة: 1934م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق